قضايا
انسحاب القوات التركية من سورية 1918
الانسحاب التركي من سورية 1918
الانسحاب من فلسطين إلى درعا
مع بدء انهيار جبهة قتال الأتراك في فلسطين تلقت القوات التركية أمراً من القيادة التركية بأن تغادر مواقعها في الفور، وأن تتوجه بأسرع ما يمكن ودون توقف إلى موقع درعا.
تضمن أمر القيادة تعليمات بعدم الانشغال أثناء الانسحاب بأي طارئ في الطريق، كي لا تشغل عن هدف الانسحاب، والوصول إلى درعا التي كانت تعد عقدة الخطوط الحديدية، لأن قيادة الجيش التركي كانت تخشى سقوط هذا الموقع بيد القوات البريطانية.
تحركت القوات التركية فوراً وبدأت بالانسحاب، وواصلت السير ليلاً ونهاراً. وكان ضمن تلك القوات التركية المنسحبة الفريق مصطفى كمال قائد الجيش السابع(1).
الانسحاب من دمشق:
بعد انسحاب القوات إلى درعا تابعت انسحابها إلى دمشق، وخلال عملية الانسحاب هذه عانى مصطفى كمال من الفوضى والهزيمة في بقايا قواته، ولم يستطع الحد من الفوضى والتشتت التي سادت قواته في دمشق.
وعندما دخل سلطان الأطرش مع قواته مدينة دمشق من حي الميدان وسيطر عليه قبل وصول القوات البريطانية أجبر مصطفى كمال الذي كان يقيم في قندق فكتوريا مقر قيادة الجيش التركي والتي كانت تحرسه قوة من الجيش الصاعقة “بيلديرم أوردوسي” على الانسحاب.
عند وصول أنباء وصول القوات البريطانية – العربية إلى دمشق، ورفع العلم العربي قامت ضجة كبيرة في صفوف الناس الذين شهدوا الحادث، فتنبه مصطفى كمال لذلك، فنزل فوراً من الفندق، وركب سيارته، وغادر دمشق مع حرسه باتجاه الشمال، وكانت ورائه سريه أخرى من جيش الصاعقة تنسف الجسور في طريقها لتعرقل تقدم القوات البريطانية – العربية.
تابعت فلول القوات التركية انسحابها نحو الشمال من دمشق، أو من رياق عن طريق السكة الحديدية والطرق البرية. وكانت القوات البريطانية تلاحقها براً وجواً.
انسحبت القوات التركية عن درعا في السابع والعشرين من أيلول 1918م، وجرت معارك ما بين القوات التركية – الألمانية المنسحبة ما بين درعا ودمشق، وتعرض بعض أفراد القوات التركية للقتل عند الانسحاب إلى دمشق.
ومع انسحاب القوات التركية من دمشق كانت تتصاعد الحرائق في كل مكان، لأن الترك والألمان كانوا يحرقون مالا يمكن نقله، وكان أشد أنفجار وحريق هو انفجار مستودع الذخيرة في القدم بدمشق(2).
الانسحاب من ريف دمشق:
وتعرض الجنود الأتراك والألمان لسلب أسلحتهم أو القتل على أيدي مجموعات من السكان،وفي بعلبك نسف فريق من الأهالي أكثر من قطار، وسلبوا ما فيه، ولقوا السلب ايضاً في دمر ودوما وغيرها أيضاً وخاصة في منطقة سرغايا وفي دمر.
كان الكثيرون من شبان ريف دمشق وضواحيها يسلبون الجنود الأتراك المنهزمين بنادقهم، وإذا قاوم أحدهم وجهت إليه نيران الأسلحة، وصرع دون شفقة.
وفي دمر وفي بعلبك نسف فريق من الأهالي أكثر من قطار، وسلبوا ما فيه. وفي سرغايا في قضاء الزبداني كانت البندقية تسبب مصرع صاحبها الجندي، لأن المسلحين من آل الشماط كانوا في أيام الانسحاب الأخيرة يكمنون ليل نهار في واديهم، ويطلبون من كل جندي يمر فيه، سالكاً الطريق إلى جانب الخط الحديدي، أن يلقي سلاحه وينجو بروحه فإذا أبى كلفه ذلك حياته، وقد شهد وادي سرغايا مجزرة ارتكبها عقيد الشماط وجماعته، إذ قتلوا سرية من الألمان حلفاء تركيا، استطاعوا أن ينجوا مجتمعين بأنفسهم وهم يتتبعون مشاة الخط الحديدي، وفي انسحابهم وقعوا في كمين عقيد الشماط وجماعته، وآبوا أن يسلموا أسلحتهم وقاتلوا قتالاً مريراً حتى فنوا عن بكرة أبيهم، وامتلأت أرض الوادي بجثثهم(3).
الانسحاب من حمص وحماة:
انسحبت القوات التركية من حمص في الخامس عشر من تشرين الأول. ووصلت إلى حماة، واستقر مصطفى كمال في دار الحكومة فيها.
كان القطار يمر بمحطة حماة ويحمل الجنود والركاب في طريقه إلى حلب، والمئات بل الألوف من الجنود وأسر الضباط والموظفين الاتراك يحتلون سطح الشاحنات والمركبات لأنهم لم يجدوا مكاناً في داخلها.
يذكر الريس أن منظر المنسحبين كان يثير الشفقة، ويعمل عمله في نفوس الحمويين المحافظين المتدينيين، فترى الوجوم في وجوههم ، وبحزن دفين، وهم يرون هزيمة دولة مسلمة عاشت مع العرب أربعمائة سنة باسم الدين، واعتبرتهم في البدء رعاياها، لا فرق بينهم وبين سائر الأقوام التي تتألف منهم الدولة، حتى جاء غلاة القومية التركية من حزب الاتحاد والترقي.
يقول الريس : ( لقد أبى الحمويون أن يثأروا من المنهزمين أبناء دينهم، على الرغم مما فعلوا، وقتلوا، وأفقروا، وأجاعوا وسخروا وخربوا في البلاد العربية)، لذلك لم يقع أثناء انسحاب الأتراك في حماة أي حادث يسيئ إليهم سوى حادث واحد، وقع خلال الأيام الأخيرة من الانسحاب، في المحطة، او على في مكان قريب منهما في اتجاه حلب، بين شاب يمتطي جواداً، يحاذي القطار السائر، فقد حدث بينه وبين جندي تركي سوء تفاهم على شراء بندقية أدى إلى أن اطلق الجندي التركي النار على الشاب وصرعه، ومع أن الجندي التركي كان المعتدي، لم يقع رد فعل للحادث في حماة، ولم يحاول أحد العدون أو الثآر من القوات المنسحبة(4).
مكث مصطفى كمال ثلاث ليال في دار متصرفية حماة، وفي صباح اليوم الثالث السابع عشر من تشرين الأول أفاق الأهالي على بيان أذاعه مصطفى كمال قبل رحيله يشكر فيه أهالي حماة على هدوئهم، وعواطفهم النبيلة التي أظهروها خلال انسحاب القوات التركية من مدينتهم، وودعهم بكلمات مؤثرة.
بعد مغادرة مصطفى كمال حماة قامت بعد ساعتين سرية فرسان من جيش الصاعقة وكانت آخر سرية عسكرية تغادر المدينة، بنسف جسر الظاهرية، وهو جسر حديدي على العاصي، يمر عليه القطار. كما نسف قبله حسر للقطار بين حمص وحماة في قرية “حر بنفسه”.
أثناء إقامة مصطفى كمال في حماة أمر بأن يفتح مستودع الحبوب الخاص بالجيش، وهو على مقربة من المحطة ولعشائر البدو، تأخذ منه ما بالحبوب وينقلونها إلى منازلهم.
في تلك الأثناء كان الأهالي يراقبون ذلك دون تحريك ساكن.
رجح منير الريس أن يكون الأتراك اشتروا الهدوء أثناء الانسحاب بما سلبته الدولة من الشعب، بينما كان هؤلاء الأعراب يفرغون مستودع الحبوب، فاجأتهم طائرتان انكليزيتان، وشاهدتا الزحام والحركة الكبيرة في الميدان بجانب المحطة، والمحطة في حد ذاتها هدف للطائرات البريطانية، فأمطرتا الأعراب بقنابلها(5).
وذكر منير الريس حادثة بيع مستودعات الجيش في حماة عبر الرائد (قولا غاسي) رئيس شعبة التجنيد في حماة والذي كان مسؤولاً عن مستودعات الجيش في حماة في شهر أيلول عام 1918م.
يقول الريس أن هذا الضابط الذي باع مخزون السمن في المستودعات إلى تجار السمن في حماة مقابل أكداس من الليرات الذهبية.
جاءت هذه الصفقة على خلفية صدور أوامر من قيادة الجيش إلى هذا الضابط المشرف على المستودعات بإتلاف ما في مستودعاته من مواد التموين والإعاشة حتى لا تقع بيد جيش العدو الزاحف إلى الشمال، والذي تجاوز دمشق، بعد أن احتلها، وأصبح في طريقة إلى حمص.
آثر الضابط أن يبيع السمن من مستودعاته بدلاً من أن يتلفه ويستأثر بثمنه بسبب فوضى انهيار الجهة والانسحاب من البلاد العربية، فدعا الضباط اثنني من تجار السمن، وفاوضهما على ثمن فيه الربح الكثير لهما، وباعهما مستودع الثمن، وقاما بنقل ما فيه فوراً إلى مستودع يخصهما.
وقد خرج رئيس التجنيد هذا من حماة بقناطير من الذهب.
تألفت عصابات في أطراف دمشق لملاحقة فلول القوات التركية والألمانية، وسلب أسلحتهم وأمتعتهم وأموالهم.
وقد خاضت هذه العصابات معارك مع شراذم الجيش التركي المنسحبة أفنوا فيها العديد منها، وغنموا الكثير من الذهب، والفضة والحلي والمجوهرات(6).
الانسحاب من المعرة:
بعد حماة وصلت القوات التركية المنسحبة إلى المعرة والتي انسحبت منها ايضاً في التاسع عشر منه، وتابعت طريقها صوب حلب.
الانسحاب من حلب:
تجمعت في حلب القوات التركية وكذلك الضباط الألمان والأتراك الكبار، وعلى رأسهم فون ساندرز القائد العام، ومنهم جمال باشا الصغير إينونو وجواد باشا،ورأفت باشا، ونزل الضباط في فندق بارون الذي أصبح مقراً للقيادة.
في تلك الأثناء أبلغ المارشال فون ساندرز الحكومة التركية استقالته، فكلفت الحكومة مصطفى كمال بالقيادة، وغادر ساندرز والضباط الألمان حلب إلى تركيا.
حاول مصطفى كمال إنشاء خط دفاعي جنوب حلب قرب المسلمية، وحشد فيه كل ما وصل من القوات التركية المنسحبة.
استفاد مصطفى كمال من الأموال الذهبية التي أرسلتها الحكومة التركية مع صبحي بك، كي يعطيها جمال باشا الصغير للعشائر السورية، لكن هذا لم يتمكن من استلامها، لأنه كان عائداً من الجبهة، فأعطاها صبحي في حلب إلى مصطفى كمال، حيث أعطى جنده رواتب ثلاثة أشهر، وأشبعهم بدلاً من إعطائها للعشائر(7)، بينما يذكر مصطفى كمال في مذكراته أنه وزع أيضا المال على الأهالي والبدو في حلب، ووعدهم بالسلاح(8).
بهذا تهيأت الفرصة له لترميم جيشه، إلا أن قبل دخول القوات البريطانية – العربية حدث في حلب فوضى واضطراب وهجم بعض البدو من عنزه وجرى قتال في الشوارع وهوجم مصطفى كمال نفسه وهو في السيارة، كما هوجمت المستودعات والمستشفيات ودور الحكومة ونهبوا كل ما وصلت أيديهم لأن هذه المؤسسات لم تكن عليها حراسة(9).
أخلى مصطفى كمال حلب واتجه نحو الشمال، حيث أقام خطه الدفاعي الأخير شمال حلب عند محطة قطمة.
احتل بدو عنزة السجن فيها، وأطلقوا سراح السجناء، وهرب عدد من الضباط العرب من الجيش التركي في حلب، وانضموا إلى القوات العربية ومنهم علي العسكري وأخوه تحسين.
يقول نوري السعيد قائد القوة النظامية إن رجال العشائر هم الذين احتلوا حلب، ومن ثم دخل الجيش الإنكليزي والعربي حلب في السادس والعشرين من تشرين الأول عام 1918م.
بعد انسحاب مصطفى كمال من حلب طمع الانكليز بتعقب مصطفى كمال وقواته، وتوجيه ضربة لهم قبل أن يصلوا إلى جبال طوروس ليتحصن فيها.
تضايق مصطفى كمال من هذه الملاحقة السريعة، وكان جيشه انتظم بعد حمص وحماة وحلب المدن الثلاث التي لم تهاجمه، ولم تعتد عليه، فأعد على بعد بضعة وعشرين كيلو متراً شمالي حلب على طريق اعزاز وكلس، هجوماً معاكساً باغت به الجيش البريطاني، ودحره حتى أبواب حلب، ثم تابع مصطفى كمال انسحابه إلى جبال طوروس.
وفي الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1918 وقعت الهدنة وتوقف القتال(10).
(1) الريس، صـ 93
(2) سعيد (أمين)، أسرار الثورة، صـ 265.
(3) الريس (منير)، الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي- الثورة السورية الكبرى،صـ 95.
(4) الريس، المصدر نفسه، صـ 95.
(5) المصدر نفسه، صـ 97.
(6) الريس (منير)، الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي- الثورة السورية الكبرى،صـ 84.
(7) جمال باشا الصغير، كيف جلت، صـ 149، /علي سلطان صـ 30
(8) مذكرات مصطفى كمال، صـ 75.
(9) الغزي، صـ 642-646
(10) الريس، صـ 99.