أثار الانتداب الفرنسي منذ ظهوره في أعقاب انتصار فرنسا وبريطانيا على ألمانيا وانهيار الدولة العثمانية عام 1918، ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، سواء داخل البلدان المنتدبة أو في أوروبا. ويبدو لي أن الباحثين والمؤرخين الأوروبيين، الغربيين والأميركيين، في معظمهم، يولون الاهتمام الأكبر في كتابة أبحاثهم على مصادر أوروبية وأميركية ، ولا ينظرون بجدية كافية إلى المصادر العربية. وإذا أحسنّا التقدير فإنهم لا يولون المصادر العربية الاهتمام ذاته . فهم يعتمدون، بالدرجة الأولى، على وثائق الحاكم ويضعون وثائق المحكوم في الدرجة الثانية وحتى الثالثة.
المصادر العربية كثيرة وهامة، وتعكس الرأي الآخر في عملية الانتداب، وهي : الوثائق المكتوبة زمن الأحداث أو في أعقابها، من رسمية وغير رسمية، الكتب التاريخية العربية التي تناولت عهد الانتداب، مذكرات من عاصروا مرحلة الانتداب، وأخيراً آراء عامة الشعب التي عاشت تلك الأيام.
هدف هذه الدراسة إلقاء الضوء على رأي المحكومين من الانتداب ، أي الجماهير المكتوية بنار الاستعمار المُخفف باسم الانتداب . وفي المنهج استخدمنا الدراسات الميدانية لسماع آراء من عاشوا عصر الانتداب من أفواههم ممّن التقى بهم كاتب هذه الأسطر.
***
بعد رجوعي من ألمانيا عام 1965، كنت أصغي إلى أحاديث المتقدمين بالسن دون أن أدوّن ما أسمع، معتمداً على الذاكرة. وبعدها قمت في عامي 1984 و 1985 بجولة ميدانية في سائر الأرياف السورية بمساعدة الاتحاد العام للفلاحين في سورية، لكتابة تاريخ المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في سورية، من أواخر القرن التاسع عشر حتى صدور قانون الإصلاح الزراعي سنة 1958. وقد بلغ عدد الأشخاص الذين التقيت بهم، لجلسات طويلة، 303 أشخاص، قدموا لنا معلومات عن 245 قرية، كما زوّدونا بمعلومات عن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي للأرياف السورية في أواخر القرن التاسع عشر حتى اللقاء بالمتحدث في ثمانينيات القرن العشرين.
كما قمت في عام 1989 بدراسة ميدانية أخرى في كل من دمشق وحمص وحلب، حيث أجريت لقاءات مع حرفيين ونقابيين قدامى زاد عددهم عن أربعين شخصا. وكان الهدف من تلك اللقاءات معرفة أوضاع الحرف والصناعة وكيفية ظهور الحركتين النقابية والعمالية في سورية، من أواخر العهد العثماني إلى عهد الاستقلال، مروراً بعصر الانتداب.
لم يكن للدراسات الميدانية ، التي قمت بها في الأرياف والمدن ، أن تلاقي النجاح بدون القراءة المسبقة للأحداث معتمدا على المصادر التالية:
– الاطلاع بعمق وروية على المجلات والصحف العربية المتوفرة في كل من مكتبة الأسد، المكتبة الظاهرية، المكتبة الوطنية في حلب، مستودع وزارة الإعلام ومكتبة المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق.
– بروتوكولات جلسات المجلس النيابي السوري بين عامي 1932 و1958، التي قدمت مادة غنية للبحث، من مختلف الجوانب.
– مصادر وزارة الزراعة والشؤون الاجتماعية والعمل ومركز الوثائق التاريخية بدمشق.
لفت انتباهي أثناء الجولة الميدانية أن الكثير من الفلاحين الذين تحدثت معهم، وأعمارهم بين السبعين والتسعين، لم يكونوا ينظرون نظرة عداء أو حقد أو كره لـ ” أيام فرنسا “، بل قيّموا تلك الفترة تقييما يرى تناقضات تلك المرحلة. وعلى العكس من ذلك، فقد بدا واضحا، من أحاديث الفلاحين، وهم في أكثريتهم الساحقة من المسلمين ومن مختلف المذاهب، أن مظالم الحكم العثماني وسياط جلاديه لا تزال محفورة في ذاكرة من عاشوا فترة العهد الأخير من الحكم العثماني واكتووا بناره وبمحرقة “السفر برلك ” ( الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 ) والفوضى الضاربة أطنابها في كل مكان .
وتتابعت اللقاءات مع أجيال لاحقة عاشت عهد الانتداب الفرنسي وناضل بعضها ضد هذا الانتداب وشاركت أعداد كبيرة في المظاهرات التي جرت في أواخر العهد الفرنسي . وكانت المفاجأة أن من استمعت إليهم – وعددهم كبير ومن مختلف المذاهب والمناطق – زالت وامّحت من ذاكرتهم مآثم الاحتلال الاستعماري الفرنسي ومرارة سلطانه ، وبقيت عالقة في ذاكرتهم إيجابيات الانتداب، الذي أدخل معه الحضارة الحديثة والنظام والقانون والانضباط والقضاء المُتَّزن، ونسوا أو غابت عن ذاكرتهم شرور الاستعمار ومآسيه.
هذه الظاهرة، التي لمسها كاتب هذه الأسطر في أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، دفعته لتسجيل ما سمعه من أفواه من التقى بهم، وما قرأه في الكتب الصادرة في تلك الفترة.
***
وقبل الحديث عن إيجابيات عهد الانتداب لا بد من إيراد بعض الوقائع المعاكسة :
– عام 1970 وبتاريخ 8 نيسان/إبريل كَتَبْتُ في مجلة ” الطليعة ” الدمشقية (العدد 199) مقالا بعنوان ” كرم في غير محله ، من مآسي الانتداب الفرنسي الاستعماري” ، عرضت فيه، نقلا عن جريدة الأحوال البيروتية في 3 حزيران/يونيو و 10 حزيران/يونيو و11 أيلول/سبتمبر و 1 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1930، حادثة اختلاس الأموال – من قبل مسيو راجي الفرنسي وهو مستشار المعارف في الدولة السورية – من خزينة الدولة السورية باسم إجازات إدارية ونفقات سفر، في وقت كانت فيه خزينة الدولة تعيش أزمة حقيقية، في أعقاب الأزمة العالمية الرأسمالية عام 1929، مما اضطر الحكومة لتخفيض أجور الموظفين لحل أزمة الخزينة. وختمْتُ المقال بالجملة التالية :
“هذا هو منطق التاريخ في المجتمعات الطبقية الاستثمارية، نهب الأموال من أكثرية الشعب وصبها في جيوب أقلية ضئيلة من أفراد المجتمع، التي تقبض ولا تنتج”.
– فخري البارودي، القائد الوطني الذي دعا إلى مقاطعة البضائع الفرنسية في أوائل الثلاثينيات كإحدى الوسائل في مقاومة الاستعمار، أشار في مذكراته، بعد أن زار فرنسا واحتك بأهلها، إلى الفرق الكبير والبون الشاسع بين ” أخلاق عامة الشعب الفرنسي العادي البسيط، تلك الأخلاق المتواضعة اللطيفة النبيلة والكريمة”، وبين الحكام الفرنسيين في سورية المتعجرفين والمتعالين وهم ينظرون نظرة استعلاء إلى محكوميهم من السوريين .
– كان معظم الوطنيين يشيدون بمبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والعدالة والمساواة، ويتساءلون لماذا تتنكر الأجهزة الفرنسية المهيمنة لهذه المبادئ ؟ .. ومن جهة أخرى كان هجوم الوطنيين يشمل في كثير من الأحيان “فرنسا” أو “الحكم الفرنسي” دون تحديد، ولم يشذ عن هذه القاعدة، في ذلك الحين، إلا أقلية ذات توجّه ماركسي ميّزت بين الاستعمار الفرنسي الغاشم والشعب الفرنسي الإنساني .
***
إذا أردنا أن نستعرض الآراء تجاه الانتداب الفرنسي في ذكريات مجايلية ، ممن عاشوا في ظل الانتداب ، علينا أن نميّز بين جيلين :
1- جيل عاش أواخر الحكم العثماني وطيلة حكم الانتداب الفرنسي ثم قطف ثمار عهد الاستقلال.
2- جيل لم يدرك المرحلة العثمانية وعاش مرحلة الانتداب وشهد معارك النضال في سبيل الاستقلال، ثم عاش متنعما بأجواء الحكم الوطني ( البورجوازي الإقطاعي ) حلوه ومره.
الجيل الأول كان يقارن بين الحكم العثماني الإقطاعي، الذي تسوده الفوضى ولم يكن لقوانين الدولة أثر يذكر فيه، والحكم الفرنسي، الذي حكمته القوانين وساده الأمن والعدل في ميدان القضاء. ولهذا فهو يعيش ذكريات الأمن والاستقرار وقلة التعديات ، ويذكر أيام فرنسا بالخير. وهذا كان واضحا في الريف وبخاصة في القرى الواقعة على حدود البادية والمُعرّضة لنهب قبائلها الرحل.
بعد الإصلاح الزراعي (1959 – 1964) وتأميمات الرأسمال الكبير (نسبيا)، ترحم المتضررون من رأسماليين وإقطاعيين على الأيام السابقة أي على أيام ” فرنسا “. هنا نجد ردود الفعل واضحة في هذا الموقف. مثالنا على ذلك ما عرف عن الشخصية الوطنية، التي أفنت عمرها في مقارعة الانتداب، وهي فخري البارودي، الذي عرف عنه قوله : ” اشتموا معي كل من ضرب حجرا في وجه المستعمر بعد أن أوصلنا الوطن بعهد الاستقلال إلى هذه الحال”.
ردود الفعل هذه نجد لها شبيها وإن يكن بشكل آخر، تتعلق ببدايات الاستقلال عندما كانت الدولة الوطنية السورية بعد الاستقلال (1943) ذات طبيعة إقطاعية – برجوازية في السنوات العشر الأولى من عمر هذه الدولة. أحكم الإقطاعيون قبضتهم على الريف فاستغلوا الفلاح إلى أبعد الحدود وأذلوه إذلالا يندى له الجبين. هؤلاء الفلاحون الذين عاشوا مرارة تلك الأيام كانوا يرددون أمامي : “حكم الفرنساوية أرحم من حكم الوطنية”.
وتأخذ ردود الفعل هذه أشكالا متعددة نذكر مثالين منها:
– في أوائل العشرينيات دخلت إحدى العشائر مدينة دير الزور باسم الوطن والوطنية، ودبّت على أثرها الفوضى والاضطرابات . عندها أخذ سكان المدينة يرددون : ” حكم الفرنساوي ولا حكم الشاوي “. والشاوي وجمعها شوايا هم البدو الرحل الذين استقروا في وادي الفرات في القرن التاسع عشر وتحوّلوا إلى فلاحين مستقرين دون أن يتخلوا عن تربية الماشية والترحال بها طلبا للكلأ . عشائر الشوايا هؤلاء ( الفلاحون – البدو ) لم يكونوا على وفاق مع المدينة التجارية دير الزور، التي تستغلهم. ومن هنا نفهم موقف أهل ديرالزور الحذر من الشوايا والعشيرة التي حكمت الدير مدة بسيطة في مرحلة زوال الحكم العثماني 1918 وقبل مجيء الفرنسيين .
هذا الموقف تجلى بعد خمس وعشرين سنة في تصرف ” إبراهيم ” وهو رجل عاقل معروف في دير الزور ، ولم تكن له علاقة مع الاستعمار حتى يُتهم بالعمالة. وعندما جلا المستعمر الفرنسي 1946 عن دير الزور وقف إبراهيم في ساحة المدينة وأمام ملء من الناس أخذ يبكي حزنا على مغادرة الفرنسيين المدينة، معللا الأمر على النحو التالي : الفرنسيون أكثر مدنية وحضارة من الحكام الجدد الوطنيين، أفلا يجوز لنا أن نزعل على رحيل المتمدنين؟ حسب رأيه. اتهم الناس إبراهيم بالجنون وأصبح لقبه إبراهيم المجنون. ودارت الأيام دورتها ودبّ الخلاف بين القوى الوطنية وظهرت تناقضات الحياة الجديدة وما رافقها من استياء الناس في دير الزور وغيرها من المدن والأرياف من حكام عهد الاستقلال الوطني . عندها أخذ الناس في دير الزور يرددون : حقا إن إبراهيم لم يكن مجنونا.
هذه الأمثلة التي تحمل في طياتها معنى العبرة وكيفية نظرة البشر للأمور من زوايا مختلفة ، والواقع التاريخي الملموس أيام الانتداب، هو الذي دفع البشر أو جزءا منهم للترحّم على أيام فرنسا من خلال ما حققه الانتداب من إيجابيات يقابلها عدد كبير من السلبيات.
***
تكوّن الدولة السورية الحديثة من ثمار الانتداب
لم يكن للدولة الحديثة في بلاد الشام وجود قبل منتصف القرن التاسع عشر، أي ما قبل قيام الإصلاحات (التنظيمات) في منتصف ذلك القرن. لقد بدأت معالم الدولة الحديثة في الظهور في أعقاب التنظيمات ونتيجة لها. ولكن تلك المعالم لم تكن راسخة البنيان وتراوحت بين مدّ وجزر. وكان قيام الدولة الوطنية العربية (1918 – 1920) في سورية الداخلية أيام الملك فيصل، خطوة راسخة المعالم في بناء الدولة. وجاء الانتداب الفرنسي بجيوشه وقوانينه وما يحمله من آليات الحداثة بمختلف أبعادها، ليبني أسس الدولة الجديدة (السورية)، التي سار عهد ما بعد الاستقلال (1943) على منوالها في بلورة هيكلية الدولة الحديثة، مع ما يتناسب من طموحات وطنية وقومية من جهة، وأهداف نهضوية تحديثية وحداثية ذات مضامين برجوازية من جهة أخرى. انعكس ذلك في أقوال الفلاحين : “أيام تركيا ما كان فيه دولة” و”أيام فرنسا صار فيه دولة”.
إضافة إلى إسهام الانتداب في بناء الدولة الحديث، ندرج في ما يلي بعض منجزات عهد الانتداب الفرنسي ، دون أن ننسى أن الانتداب هو شكلٌ أقلّ استغلالاً وتعسفاً من الاستعمار، وهي :
تراجع الظلم الوحشي السافر، الذي مارسته الدولة الإقطاعية العثمانية. هذه الدولة ، التي اختزن تراثها القمعي كل ما خلفته أجهزة التسلط والبطش المملوكية والانكشارية. وحلّ في عهد الانتداب مكان ذلك الظلم الإقطاعي الشرقي، ظلم مقنّع أخفّ وطأة تَحدّ من غلوائه القوانين البرجوازية، وتمارسه أجهزة الانتداب القمعية المتمثلة بعساكر المستشار في الريف وجنود الاحتلال في المدن، وفي مقدمتهم أداة قمع المظاهرات الوطنية ، عسكر السنغال.
غياب قانون الغاب السائد في العهد العثماني واختفاء الفوضى لتحلّ محلهما القوانين الناظمة لحياة المجتمع في مختلف المجالات. وما إن أطلَّ عقد الثلاثينيات حتى استتب الأمن في الريف استتبابا ملحوظا، مما أكسب الانتداب شعبية في أوساط الفلاحين المكتوين سابقا بنار الفوضى وغزوات البدو ونهبهم للقرى. ولم يقتصر استتباب الأمن على المعمورة، بل تعداه إلى البادية، حيث خفّت وتيرة الغزوات بين قبائل ” العرب السيار ” من جهة، واعتداء هؤلاء على الفلاحين المستقرين في قراهم من جهة أخرى. وأينما تجولنا في سنتي 1983 – 1984 كان الفلاحون المسنون يلهجون بالثناء على ” أيام فرنسا ” التي حققت لهم الأمن والطمأنينة.
دعمت سلطات الانتداب الزعامات العشائرية، وسهلت لها ولوجهاء القرى استملاك الأراضي كي توسع قاعدتها الاجتماعية في الحكم . وكان لهذه العملية جانب إيجابي في زيادة الإنتاج الزراعي واتساع مساحة الأراضي المزروعة، ولكنها حرَمَت الفلاحين من الأرض لتقدّمها للفئات العليا ذات النفوذ. وكثيرا ما تدخل عساكر المستشار الفرنسي لقمع احتجاجات الفلاحين وتململاتهم ضد من استولوا على الأرض بمساعدة السلطة، سواء في العهد العثماني أو الفرنسي . وبالمقابل كان عدد من موظفي مصلحة الكادسترو ( المساحة ) الفرنسيين يقفون إلى جانب الفلاحين ويرشدونهم إلى الطرق القانونية الواجب اتباعها للحفاظ على أراضيهم ، مسترشدين بمثل الثورة الفرنسية وجوهرها المعادي للإقطاعية .
انتشار التعليم في أوساط متنوعة، وتشكل جيل من المثقفين من خريجي مدارس الإرساليات ومعاهدها أو من خريجي المدارس الوطنية والجامعة السورية، بالإضافة إلى خريجي الجامعات الفرنسية. وجيل المثقفين هذا أسهم في إرساء أسس الدولة الحديثة السورية بعد الاستقلال 1943 . ولا تزال أجيال ذلك العهد تتذكر جدّية ودقّة وصرامة التعليم في العهد الفرنسي ، الذي خلق أجيالا ذات ثقافة عميقة وواسعة تجيد اللغتين العربية والفرنسية.