مقالات
نشوان الأتاسي: وقائع حرب حزيران 1967 على الجبهة السورية
نشوان الأتاسي- التاريخ السوري المعاصر
ولأن حركة 23 شباط 1966 جاءت رداً على الممارسات “اليمينية والرجعية” للقيادة القومية، فقد كان على الحكام الجدد أن يكونوا أكثر “ثورية وتطرفاً” من سابقيهم، ليس على الصعيد الداخلي وحسب، لكن على الصعيد القومي أيضاً، بغرض المزايدة على عبد الناصر. وكان أن شكلوا “منظمة الصاعقة” من الفلسطينيين البعثيين الموالين لحكام دمشق، وهدف إنشاء هذه المنظمة إلى أن تصبح إحدى “الميليشيات” التي يمكن استخدامها لأغراض القمع، وفي الصراعات على السلطة داخلياً، وللبدء في الدخول على خط المقاومة الفلسطينية التي كانت قد بدأت في الظهور على مسرح أحداث الشرق الأوسط عبر منظمة فتح “ياسر عرفات” و الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “جورج حبش”.
أطلق السوريون يد الفدائيين في العمل عبر الحدود في عمليات داخل إسرائيل، وأذيعت بياناتهم العسكرية عبر راديو دمشق ووفروا لهم المال والسلاح، لكن المفارقة أن سورية منعت انطلاق العمليات مباشرة من أراضيها. فكان الفلسطينيون يتسللون إلى الأراضي المحتلة عبر الحدود اللبنانية والأردنية، فهدّدت إسرائيل سورية، ورد السوريون بأنهم لن يمنعوا الفدائيين، ولن تكون سورية “حرس حدود” لحماية إسرائيل، وزادت في دعوتها إلى “حرب تحرير شعبية”، كما دعت الجماهير العربية إلى تخليص “الوطن العربي من الرجعية والاستعمار”، وأن أولوية تحرير فلسطين تعلو على أي أولوية أخرى، وأن دعوات التركيز على الإصلاح والتنمية الاقتصادية “غير منطقية وجبانة” لأنها تؤجل التحرير إلى مستقبل غير محدد، إذ ما نفع المشاريع إذا سقطت البلاد تحت الاحتلال. وفي إطار المزايدة على عبد الناصر شن السوريون حملة إعلامية واسعة على وجود قوات الطوارئ الدولية في سيناء (وكانت تلك القوات قد انتشرت إثر حرب السويس عام 1956)، كما بدؤوا هجوماً موازياً على قبول مصر فتح مضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية.
وتابعت سورية لهجة التحدي السافر، فقد صرح رئيس الدولة نور الدين الأتاسي يوم 7 نيسان 1967 بقوله “سنجعل من الأسطول السادس طعاماً للسمك”، وزايد عليه رئيس الأركان أحمد سويداني بالقول “سنلقي بإسرائيل في البحر”، وكان راديو دمشق يردد ” دمشق ليست أقل بطولة من هانوي”. وأعلن مصطفى طلاس أمام جمهور غفير في حمص يوم 1 حزيران 1967 “بأن الفرصة مناسبة لتحدي إسرائيل لأنها غير جاهزة للقتال”.
ردت إسرائيل بحملة إعلامية مركزة ضد دمشق واتهمتها بأنها وراء العمل الفدائي، وأعلنت في نيسان 1967 بأنها ستستغل كل أراضي المنطقة المنزوعة السلاح بين الطرفين وستقوم بزراعتها وبناء المستوطنات، وجرت عدة اشتباكات إثرها، أظهرت هشاشة الجيش السوري وطيرانه، فحجمه لم يكن يزيد على 50 ألف جندي، بتدريب وتجهيز غير كافيين، وفئة ضئيلة من الضباط، بعد سنين من التطهير السياسي، ولم يكن لدى السوريين أكثر من 500 دبابة سوفياتية قديمة الصنع وأكثر من نصفها لا يعمل، و100 طائرة من طراز ميغ 17، كما كانت نخبة القوات المدرعة (اللواء السبعين) متواجدة في دمشق ومحيطها لحماية النظام. وقد ذكر أكرم الحوراني في مذكراته أن سورية كانت تملك وقتها 20 طائرة ميغ 21، بينما الطيارون الموثوق بهم سياسياً والذين يسمح لهم بالطيران لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، والمعروف أن معظم الطيارين قد فُصلوا في عمليات التطهير المتواصلة. وعندما عقد سويداني اجتماعاً على الجبهة في مطلع حزيران، سأله العقيد ميشيل خوري: “كيف سنحارب بدون ضباط؟ ليس عندنا ما يكفي من الضباط لإدارة المعركة”، فأجابه سويداني: “رقِّ ما عندكم من تلامذة الضباط”.
على صعيد آخر، وبعد التهديدات التي وجهتها إسرائيل لسورية، والحملات الإعلامية السورية بشأن قوات الطوارئ الدولية ومضائق تيران، طلب عبد الناصر إلى الأمم المتحدة سحب قواتها من سيناء، ثم قام بإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، وكان هذا بمثابة إعلان حرب استغلته إسرائيل كي تقوم بضربتها التي كانت على كامل الاستعداد للقيام بها.
وفي صباح الخامس من حزيران قامت القوات الجوية الإسرائيلية بتوجيه ضربة قاضية لسلاح الجو المصري وطائراته جاثمة على أرض المطارات، ففقدت مصر سلاحها الجوي خلال أول ساعتين من بدء المعارك، وغدت القوات المصرية التي دُفعت إلى سيناء على عجل، دون أي غطاء جوي، مما ساهم في تحطيمها وتدميرها بسهولة.
أما على الجبهة السورية فقد تأخر إعلان الحرب على إسرائيل حتى ظهر يوم الخامس من حزيران، بعدما قام سلاح الجو الإسرائيلي بتدمير العدد القليل من الطائرات الذي يملكه سلاح الجو السوري وهي جاثمة على الأرض أيضاً، وقد تم ذلك بعد عدة ساعات من تدمير السلاح الجوي المصري.
لقد اكتفى الجيش السوري حتى يوم التاسع من حزيران بقصف المستعمرات الإسرائيلية في سهل الحولة كما كان يحدث من قبل، ولم يقم بأي هجوم أرضي، منتهزاً فرصة انشغال الجيش الإسرائيلي باحتلال سيناء والضفة الغربية، كما أن قيادته لم تطلب إيقاف إطلاق النار في اليوم السابع من حزيران كما فعلت مصر، وإنما بقيت تنتظر أن يقوم الإسرائيليون بالهجوم، وهو ما حدث فعلاً في اليوم التاسع من حزيران عندما قام الإسرائيليون في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثلاثين بالهجوم على التحصينات السورية في مرتفعات الجولان، وعندما تم اختراقها طلبت سورية من مجلس الأمن وقف إطلاق النار وأصدرت وزارة الدفاع أمراً للجيش السوري بالانسحاب “الكيفي” من تلك المواقع الحصينة.
ثم أعلنت القيادة السورية عن سقوط مدينة القنيطرة يوم الجمعة 9 حزيران بينما جرى احتلالها من قبل الإسرائيليين يوم الأحد 11 حزيران، وهذا الإعلان المسبق عن سقوطها الذي رددته الإذاعة السورية مرات عديدة كان سبباً لتنفيذ قرار الانسحاب الكيفي، فقد قال ضباط الجبهة بأنهم ظنوا عند سماعهم بالخبر عبر “راديوهات الترانزستور” من الإذاعة السورية، أن الجيش الإسرائيلي قد أنزل قواته المظلية وراء الخطوط السورية فاضطروا لترك خطوطهم الأمامية ولاذوا بالفرار بفوضى لا نظير لها وتركوا في مواقعهم معظم أسلحتهم الثقيلة. ولما أعلن المندوب السوري في هيئة الأمم المتحدة سقوط القنيطرة واحتلالها من قبل الجيش الإسرائيلي كذّبه المندوب الإسرائيلي قائلا: إننا لم نحتلها بعد…وقد أثار ذلك ضحك ودهشة أعضاء هيئة الأمم المتحدة واستغرابهم.
ومما يجدر ذكره أن إسرائيل هاجمت جبل حرمون يوم 12 حزيران، أي بعد يومين على بدء سريان وقف إطلاق النار، وقامت باحتلال قمّة جبل الشيخ ذو الأهمية العسكرية والإستراتيجية بإطلاله على فلسطين والأردن ولبنان والساحل الشرقي للبحر المتوسط ومناطق شاسعة من سورية.
كان يقطن في الجولان، الذي تبلغ مساحته 1.860 كم2، قبل الحرب 140 ألف مواطن سوري (سنّة 80% ، دروز 10%، علويون 4%، ومسيحيون 5%)، فرّ منهم أثناء القتال 35 ألفاً، وتهجّر سكان مدينة القنيطرة وعددهم 17 ألفاً، منهم ستة آلاف من السوريين الشركس. لقد أراد الإسرائيليون أرضاً دون شعب، فعمدوا في الأشهر الستة التالية إلى وسائل عدة لتهجير الذين لم يغادروا، فدمّروا البيوت وقطعوا أنابيب المياه وخطوط الكهرباء ومنعوا دخول البضائع التموينية والمواد الغذائية، وهدّدوا السكان بالموت، واعتقلوا الشبان وعذّبوهم، وصولاً إلى إعدامات ميدانية في المعتقلات. ثم بدؤوا بإصدار أوامر لعائلات بأكملها بمغادرة الجولان، فكانت هذه العائلات تترك وراءها كل ما تملكه من أثاث منازل، ومحتويات محلات تجارية، فغادر الجولان 90 ألفاً من سكانه نقلوا إلى مخيمات في درعا ودمشق، ولم يبق في الجولان من سكانه الأصليين تحت الاحتلال سوى 8.000 شخص، أي 5% فقط، معظمهم من الدروز، كما لم تسمح إسرائيل بعودة السكان، باستثناء 400 من الدروز.
وفي شهر كانون الأول من عام 1981، قام الكنيست الإسرائيلي بضم الجولان رسمياً إلى الدولة العبرية.
ومن اللافت للنظر أن إسرائيل لم تستخدم هذه الممارسات في الضفة الغربية التي احتلتها في وقت متزامن مع احتلالها للجولان، كما لم تقم بضمها أيضاً، رغم أن الضفة تمثل أرضاً أكثر قدسية بكثير للإسرائيليين من الجولان، فهي الأرض التاريخية لمملكتي يهودا والسامرة، اللتين تشكلان الأساس الديني والتاريخي لقيام دولة إسرائيل عام 1948.