في خضم الأزمات والتحديات والصراعات الدامية التي تجري في الوطن العربي حالياً، تثيرني أسئلة كثيرة لماذا كل تلك الأحداث المأساوية التي تجري في بلداننا العربية من المغرب إلى المشرق، لماذا في منطقتنا العربية بالذات التي دعيت باسم الشرق الأوسط ، نحن أهل المنطقة وسكانها نقع ضحايا القتل والعنف والتدمير والتشريد والإرهاب ..
ما هي الأسباب التي أدت إلى اشتعال النار في بلدنا سوريا فاحرقت الأخضر واليابس ومزقت نسيج الأمة وحولته إلى خيوط مختلفة الألوان ومبعثرة يحركها ويشدها إلى جهته كل من نوون الخراب والدمار للوطن تنفيذاً لمآربهم.
بلا شك أن كل ما يحصل حالياً هو محصلة لما حصل فيما سبق من وقائع وأحداث ضمن شروط موضوعية مرتبطة بالزمان والمكان، وما انتشر من أفكار ورؤى وشعارات وسياسات وما جرى من تحولات اجتماعية اقتصادية وثقافية خلال ما يربو على ستين ونيف عام مضت . لذلك فإني سألتفت إلى الوراء لأستطلع النقاط الأكثر تأثيراً من خلال معايشتي للأحداث.
لكني لا أنوي إعادة كتابة تاريخ لفترة تاريخية معاصرة، فكتابة التاريخ تتطلب قواعد وشروطاً وطرقاً مدروسة بدقة متناهية من قبل التيارات الثقافية المعاصرة للعلوم الإنسانية، كما أنني لا أسميها مذكرات لأن ذلك أيضاً يتطلب الدقة ووضوح الذاكرة والمعرفة فيما أسجله من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.
والأفضل أن أقول أن ما أورده من خلال معايشتي للإحداث ومن تجربتي الشحصية هي انطباعات تركت أثراً كبيراً في داخلي وراحت تشغل ذهني للبحث عن الأسباب المؤدية لتلك الأحداث وتحليل وتفكيك عناصرها التي أدت إلى ما نحن عليه من محن.
ترعرعت ونشأت في بيت سياسي خلال الحرب العالمية الثانية فكل ما كان يدور من أحاديث ورواية أخبار عن المعارك الحربية والتحولات في سيرها التي تؤثر في نتائجها لمصلحة فريق أو آخر كان يجري وضعها في ميزان المصلحة الكلية للثورة السورية الكبرى لنيل الاستقلال والحرية وزوال الانتداب الإفرنسي عن سورية.
في ذلك الزمان كان الشعب السوري الطيب يجميع مكوناته قلباً واحداً وإرادة واحدة في سبيل هدف واحد هو الاستقلال وزوال الانتداب الفرنسي الذي فرضته معاهدة سايكس بيكو في عام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى ونصت بنودها على تقسيم الوطن العربي واحتلاله بين الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بريطانية وفرنسا وروسيا القيصرية وتم ذلك في سرية تامة وفي غفلة عن الشعوب العربية وزعمائهم الوطنيين الذين صدقوا وعود الحلفاء بالاستقلال والوحدة وحاربوا إلى جانبهم.
كانت الجموع تتوالى إلى منزل جدي في المناسبات الوطنية وفي الأعياد، وهم ينشدون الأناشيد الوطنية ويرفعون شعارات الاستقلال والحرية والكرامة ويحيون الزعماء الوطنيين العاملين بلا كلل لتحقيق الهدف الوطني الأمثل وهو إسقاط الانتداب وتحقيق الاستقلال والوحدة الشاملة للجمورية العربية السورية .
إثر نضال طويل نجحت الكتلة الوطنية في تشكيل وفد سوري ليقوم بالتفاوض من أجل الاستقلال مع حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ليون بلوم، فذهب الوفد إلى باريس برئاسة زعيم الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي عام 1936 وبعد ستة أشهر من المفاوضات تم التوقيع على اتفاقية استقلال سوريا بين الوفد السوري والحكومة الفرنسية، غير أن المعاهدة لم تقدم فوراً إلى البرلمان الفرنسي لتصديقها وكان هذا التأخير من أهم أسباب عدم العمل ببنود المعاهدة فيما بعد وذلك لتغير الحكومة الفرنسية ومن ثم عدم مصادقة البرلمان عليها.
عند عودة الوفد السوري إلى سوريا تم استقباله استقبال الأبطال وعمّ الفرح المحافظات السورية وجرت على الفور انتخابات المجلس النيابي ومن ثم انتخب زعيم الكتلة الوطنية السيد هاشم الأتاسي رئيس للجمهورية السورية الموحدة. لكن الحكومة الفرنسية اليمينية التي تلت حكومة الجبهة الشعبية التي وقعت على نصوص المعاهدة السورية الفرنسية انقلبت على الاتفاقية وأضافت عليها بنداً جديداً يؤكد سيطرتها على سورية بالكامل وبدأت بوضع العراقيل أمام الحكومة السورية الوطنية، عند ذلك استقال الرئيس السوري هاشم الأتاسي من منصبه احتجاجاً على نقض فرنسا للمعاهدة ورفضاً لهيمنة سلطة الانتداب على سورية في عام 1939م وكان ذلك قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن ثم استمر بالنضال ضد الانتداب مع سير الحرب وحتى عام 1941 حيث عين الفرنسيين تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية السورية الأولى الذي استمر بمنصب الرئاسة حتى وفاته في عام 1943م.
ـ في عام 1943م كانت فرنسا مقسمة بين حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول بعد إنزال الجيش الفرنسي بمساعدة الحلفاء في النورماندي وبين حكومة فيشي الواقعة تحت الاحتلال الألماني النازي ومن خلال محادثات سورية مع حكومة فرنسا الحرة سمحت بإجراء انتخابات برلمانية مع بعض ممارسات الحكم الذاتي في سورية ، فجرت انتخابات لمجلس نيابي وترشح السيد شكري القوتلي لمنصب رئاسة الجمهورية بعد مجيئه إلى حمص واستشارته الرئيس هاشم الأتاسي وتيقنه من عدم رغبته بترشيح نفسه للرئاسة طالما الانتداب سارياً على سورية، وطلب منه الموافقة والمساعدة في الانتخابات وعليه تم انتخابه رئيساً للجمهورية السورية عام 1943م.
أشاع الحدث الجديد ( الانتخابات الرئاسية ) الفرح في قلوب السوريين أملاً بالحصول على الاستقلال التام الذي تمّ في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م بعد نضالٍ شاق وطويل إذ أيدت منظمة الأمم المتحدة قرار استقلال سورية ووحدتها بأغلبية الأعضاء .
وهكذا احتفلت سورية حكومة وشعباً بعيد الاستقلال لأول مرة في 17 نيسان ـ إبريل من عام 1946م في عهد رئاسة شكري القوتلي.
بدأت الحياة السياسية تظهر في الساحة في العاصمة دمشق وبقية المدن السورية، لقد استجدت مفاهيم جديدة لمرحلة زمنية جديدة في سورية كانت قد تأكدت في العالم الحرّ الذي نتج عن سقوط الديكتاتوريات المستبدة العنيفة في النظام النازي في ألمانيا والنظام الفاشي في إيطاليا بعد انهيارهم وانهزامهم في الحرب العالمية الثانية.
وراح الناس في سورية المستقلة يتداولون فيما بينهم في الأحاديث السياسية عبارات مثل الديموقراطية والعدالة وحرية التعبير والنظام البرلماني وشيئاً فشيئاً بدأت تتشكل الأحزاب السياسية على أنقاض الكتلة الوطنية التي انقسمت على بعضها البعض بعد أن كانت تجمع الشعب السوري وتقود الثورات والمفاوضات من خلال الكفاح من أجل الاستقلال التام، وازدهر الإعلام في الصحافة السورية فتأسست صحف جديدة في العاصمة والمحافظات كما بدأت تتشكل حركات قومية بين الشباب مثل حركة البعث العربي والقومي السوري والحزب الشيوعي .
في الواقع كان لبعض التجمعات الحزبية وجوداً قبل الاستقلال لكنها لم تظهر على السطح وانطوت تحت شعار النضال ضد الاستعمار في بوتقة الكتلة الوطنية التي كانت تجمع السوريين والتي تزعمت النضال ضد الاستعمار.
لكن منهم من وعى العناصر الأساسية للتجربة الديموقراطية وأهمية ممارستها لكن عندما عملوا على تطبيقها لم تكن ممارستها عميقة بل سطحية أكثر مما هي فعالة في الواقع السياسي والإداري والاجتماعي والثقافي، وظهر ذلك جلياً عند مجيء عام 1947م الذي جرت به انتخابات نيابية لمجلس نواب جديد يلي المجلس الذي انتهت مدته الدستورية وخلال الحملة الانتخابية حصلت انقسامات قوية بين الفصائل السياسية وبرزت إلى السطح نزعات مناطقية متحدة المصالح، فقد
تجمع الدمشقيون وممثلوهم من زعماء دمشق في تحالف ليكون لهم السبق في نيل السلطة، وفي الشمال جرت تحالفات منها ما هو بالمرصاد لتحالف دمشق وهكذا وبدرجة أخف في بقية المحافظات .
كانت تلك التحالفات السياسية تتم على أساس المصلحة بالدرجة الأولى، ولم تكن الخلافات بينها سياسية جوهرية أو خلافات عقائدية أيديولوجية، بل كانت تحالفات تتعلق بسير الأعمال في الإدارات وتعيين الموظفين حسب صلتهم القريبة أو البعيدة بالوزراء والمسؤولين، وظهرت بشكل جلي في أوقات إجراء الانتخابات النيابية.
وبدأت تنتشر في المجتمع السوري أساليب المحاباة والتملق لأصحاب النفوذ لنيل رضاهم والفوز بالمناصب. تلك السمة التي شيئاً فشيئاً ظهرت منذ بدء ظهور الحياة السياسية وظلت تنتشر وتتوسع حتى اجتاحت المجتمع السوري، فظهر الفساد في مؤسسات الدولة كنتيجة منطقية لأسلوب التملق والتقرب وتفضيل المقربين والمؤيدين لنيل الوظائف العامة دون النظر إلى أهلية الشخص العلمية وكفاءته.
في العام 1947م جرت أحداث جسيمة في الوطن العربي امتدت ظلالها ونتائجها السيئة إلى الآن، وكانت وليدة معاهدة سايكس بيكو لتقسيم الوطن العربي إلى دويلات متعددة وأدت إلى كارثة من أبشع كوارث التاريخ إذ ضمت إنكلترا منطقة فلسطين العربية ضمن حصتها في احتلال أجزاء من الوطن العربي وساهمت بصورة فعالة خلال الحرب العالمية الثانية بتهجير اليهود المتصهين من ألمانيا بحجة المحرقة النازية لليهود الهلوكوست إلى فلسطين بالاتفاق مع الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية وكذلك عملت عبر هذه المنظمات الصهيونية على تهجير أعداد كبيرة من اليهود من البلدان الشيوعية في أوروبا الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي لزرعهم في قلب الوطن العربي فلسطين تمهيداً لمشروعها الاستعماري الاستيطاني في إقامة كيان صهيوني في وسط الوطن العربي وتنفيذاً لوعد بلفور الإنكليزي، ونتيجة لممارسات المستوطنين الصهاينة في العدوان الآثم على أهل فلسطين قامت الثورات والاحتجاجات داخل فلسطين للدفاع عن أنفسهم ووطنهم وممتلكاتهم فحصلت اعتداءات دموية من قبل الوافدين الصهاينة الذين شكلوا عصابات مسلحة جاهزة للعدوان، فعمدت منظمة الأمم المتحدة لحل الصراع على تشكيل لجنة قامت بطرح مشروع تقسيم فلسطين وإقامة دولتين فيها دولة عربية فلسطينية ودولة إسرائيلية يهودية على أن تدار مدينة القدس من قبل إدارة دولية.
كان هذا المشروع لتقسيم فلسطين قد ظهر سابقاً في تقرير للجنتين تم تعينهما على يد الحكومة البريطانية لبحث قضية فلسطين إثر الثورة الفلسطينية الكبرى التي دارت بين سنوات 1933ـ 1939م وهما لجنة بيل عام 1937م ولجنة وودهد عام 1938م.
اجتمع مندوبوا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر تشرين الثاني من عام 1947م، فوافقت الدول العظمى في ذلك الحين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والاتحاد السوفيتي على خطة التقسيم وامتنعت بريطانية عن التوصيت إذ كانت لا تزال تدير سلطة الانتداب على فلسطين، ونال المشروع بتشجيع من هذه الدول الكبرى أغلبية الأصوات ورفضته الدول العربية كافة والدول الإسلامية الأعضاء في هيئة الأمم، وهكذا كانت بداية الكارثة التي أجلت الفلسطينين من أراضيهم وبيوتهم التي استقروا بها من آلاف السنين وجعلتهم مشردين ومهجرين بلا وطن. تلك الكارثة كانت وصمة العار للدول الكبرى في القرن العشرين .
انتفض الوطن العربي لهول الكارثة وهاجت الشعوب العربية عضباً ورفضاً لقرار التقسيم وطالبت بإعلان الحرب على المغتصبين فدعت جامعة الدول العربية إلى تكوين الجيش العربي للإنقاذ، وأقبلت الجماهير على التطوع لمحاربة المحتلين ودخل جيش الإنقاذ العربي فلسطين لكنه خرج مهزوماً مع حشود الآلاف من المهجرين الفلسطينيين الذين باتوا بلا وطن. عند ذلك طلب مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي عاد إلى القدس بعد لجوئه إلى لبنان من الجامعة العربية أن تساعده على إقامة حكومة فلسطينية وطنية تقود الصراع ضد اسرائيل ومشروعها من داخل فلسطين، فقوبل بالرفض لأن بعض الزعماء العرب كانت لهم أمانيهم بضم القسم العربي الفلسطيني في مشروع التقسيم إلى ممتلكاتهم وعبّر عن ذلك علناً الملك الأردني عبدالله الأول، ودعيت هذه الكارثة بالنكبة.
ليس في نيتي إعادة ما تمّ سرده مئات المرات ولم يزل حول كارثة فلسطين بل أن أظهر ما نتج من حوادث عن هذه الكارثة في البلاد العربية وخصوصاً في بلدي سورية.
لقد انتشرت نقمة الشعوب العربية في أنحاء الوطن العربي ومنها سورية وقذفت الاتهامات للحكومات المتخاذلة، وأهم ما شاع هو صفقات الأسلحة الفاسدة التي تم شراؤها لتسليح جيش الإنقاذ العربي والتي كانت من أهم أسباب الهزيمة بينما تدفقت الأسلحة الأمريكية الحديثة على الإسرائيليين، وهكذا علقت الجيوش العربية هزائمها على هذا السبب المباشر. حدث هذا خصوصاً في سوريا ومصر ورافق ذلك أحداث سياسية محلية، ففي سورية عمل رئيس الجمهورية شكري القوتلي الذي تنتهي ولايته الدستورية عام 1947م على تعديل الدستور الذي ينص على أنه لا يجوز أن يترشح الرئيس للمنصب الرئاسي لولايتين متتاليتين وبدّل ذلك بمادة تسمح بجواز ترشحه وانتخابه فكانت تلك الخطوة الأولى في محاولة كسر هيبة الدستور كمؤسسة قانونية مركزية في كيان الجمهورية، وجعلها طيعة لرغبة الرؤساء والطامعين بالدخول والبقاء في السلطة. وكان الضباط الكبار المسؤولون في الجيش السوري والذين خدموا فيه سابقاً قد رفضوا التعديل وتأكدوا من أهميتهم من حيث هم حماة الوطن المسؤولون عن الدفاع عنه من خلال تجربتهم في الحرب ضد إسرائيل وشعورهم بالخيبة من جراء هزيمتهم التي الحقوا أسبابها بالسلطة المدنية، فطمعوا باستلام السلطة السياسية إلى جانب العسكرية بدلاً من تنفيذ قررات السياسيين ومما لا شك فيه أن إيحاءات وأيادي أجنبية لعبت دورها في وسط الساحة السياسية في سورية.
لقد كانت سورية بعد الاستقلال دولة فتية تمتلك موقعاً أستراتيجياً وثروة نفطية وهذا ما جلب الطامعين من الدول الكبرى التي كانت استعمارية لاقتناص ثرواتها والاستفادة من موقعها الاستراتيجي، فبعد خروج فرنسا من سورية كدولة استعمارية عملت على أن تسيطر اقتصادياً لتبقى سورية ضمن نفوذها كما قامت شركات بريطانية بمد خط أنابيب النفط من العراق عبر سورية ودخلت الولايات المتحدة الامريكية بمجال المنافسة لتحقيق مصالحها في العالم كدولة منتصرة قوية اقتصادياً وعسكرياً وهكذا أصبحت سورية ملعباً للإنقلابات العسكرية المتوالية.
ـ ربما قد أفضت في سرد أهم المواقف حيال أهم الأحداث في تلك المرحلة الزمنية القصيرة بعد الاستقلال لأبين بأنه لا الساسة الذين تسلموا مقاليد السلطة ولا الشعب السوري كانوا على قدر من الوعي والتفهم التام للعناصر الأساسية التي تقوم عليها الجمهوريات الحديثة، مثل مفاهيم الديموقراطية والعدالة والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم يلتزموا بالقوانين التي يقوم عليها بناء الدولة ولم يعوا واجب التقدير والاحترام لأهم عنصر في كيان الجمهورية وهو الدستور بل جعلوا من شخوصهم رموزاً للدولة المستباحة لمصالحهم ونتيجة ذلك تعددت المرات التي انتهك فيها الدستور بتعدد الانقلابات العسكرية.