من الصحافة
نادر الأتاسي.. شيخ منَح صباه للسينما
لئن استحق المهندس ورجل الأعمال السوري نادر الأتاسي (1919-2016) لقب “شيخ المنتجين العرب” نظير نشاطه الضارب في الزمن، في فن إنتاج السينما، بشكل مبكرّ، إلا أن شخصيته جمعت أكثر من بعد ومحتوى، خصوصاً أن عمره المديد الذي كاد يقترب من القرن، جعله في قلب الأحداث السياسية والتحولات التي رافقتها في المجتمع السوري، منذ ما قبل عصر الاستقلال، ومرورا بالزمن الذي وصل فيه حزب البعث إلى السلطة، وانتهاء بمجمل إنجازاته السينمائية.
ومنذ أعلن عن وفاته في بيروت الاثنين الماضي، انبرت الأقلام لتغطية هذا الخبر. فهو ليس مجرد منتج سينمائي، أو عامل في حقل استثماري معيّن، بقدر ما هو نموذج للشخصية السورية التي تأثرت بالحدث السياسي المحيط.
ففي الوقت الذي تأثرت فيه البرجوازية السورية، بعصر الانقلابات التي عصفت بسوريا، وأشهرها انقلاب حزب البعث الاشتراكي، وما يعنيه الأخير من تأثير جوهري على تاريخ العائلة التقليدية السورية بمحتواها الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي، كان لنادر الأتاسي أن يتخذ خيارا آخر غير هجرة رؤوس الأموال التي قامت بها البرجوازية الوطنية بعد وصول اشتراكيي حزب البعث الى السلطة في سوريا أول الستينيات.
بيّاع الخواتم وبنت الحارس وعقد اللولو
فقد اتجه المهندس الأتاسي، وبعد أشهر من وصول “البعث” إلى السلطة، وبعد امتلاكه لما يقارب نصف صالات العرض السينمائي في سوريا مابين نهاية الخمسينيات وأول ستينيات القرن الماضي، إلى إنتاج أول أعماله السينمائية في فيلم “عقد اللولو” عام 1964 من بطولة نهاد قلعي ودريد لحام.
ثم تلاه بالفيلم الشهير “بياع الخواتم” عام 1965 و”سفر برلك” عام 1966 والفيلم الذي حاز شهرة واسعة “بنت الحارس” عام 1967.
وفضلا عن إنتاجه الأعمال السالفة، فقد اتجه إلى الإنتاج العالمي، فأنتج فيلم “حب مع الأبراج” وفيلم “كسارة البندق” وفيلم “سيد الوحوش” والفيلم الفرنسي “دم الآخرين”.
فكرّمه مهرجان القاهرة السينمائي عام 2005 وكرّم في مناسبات مختلفة كأحد أقدم المنتجين السوريين فحاز لقب شيخ المنتجين على ذلك.
مقاول قبل الاستقلال ومنتج سينمائي بعد وصول البعثيين إلى السلطة
إلا أن عودة إلى الخلف، في تاريخ الرجل، تظهر شكلاً من أشكال تطور العائلة السورية في ظل أحداث سياسية ضاغطة ومؤثرة إلى درجة التغيير في هوية المجتمع وانتقاله من اقتصاد ليبرالي حر، إلى مجتمع تقوده سياسة اشتراكية جوهرها “توزيع” الملكية بعد نزعها من أصحابها، على خلفية وصول حزب اشتراكي الى السلطة في سوريا، بعد انقلاب سياسي وعسكري وايديولوجي غيّر من تركيبتها الاجتماعية والسياسية حتى اللحظة، مع أوائل ستينيات القرن الماضي.
فقد سبق للمهندس وشيخ المنتجين في ما بعد، أن أسس شركة تعهدات قبل عصر الاستقلال السوري عن فرنسا المحتلة، وكان لشركته تلك التي تأسست مع نهاية الحرب العالمية الأولى أن تنفذ مشاريع هندسية ضخمة في البلاد، من مثل معمل النسيج في حمص عام 1947 ثم معمل السكر في محافظة حمص عام 1949 ثم مشروع نقل مياه الفرات وتنقيتها عام 1950 ومبنى البريد والهاتف في محافظة حلب عام 1958 ثم مستودعات ميناء اللاذقية على الساحل السوري ومبنى الأيتام بدمشق ومبنى بريد دمشق ومعمل زجاجها ومعمل سكّرها. ومشاريع أخرى عديدة أكثر من أن تحصى، ومنها مشاريع مقاولات الطرقات ما بين حمص مسقط رأسه وبعض المحافظات المحاذية لها، كطريق حمص-السلمية الذي كان من إنجازاته الأولى.
وساهم بمشاريع مختلفة كبرى في العراق في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، من خلال شركة “أوريانكو” التي ساهم في تأسيسها.
حتى إن للراحل نشاطاً وصل إلى مزاولة الصحافة، بعدما أصدر قريب له من آل الأتاسي في حمص صحيفة “السوري الجديد” وعيّنه رئيساً لتحريرها وصاحباً لامتياز إصدارها تبعا لما نقلته “الوطن” السورية في تقرير عن تاريخ الراحل. ليصبح شخصية شهيرة تتداولها الكتب في الأعلام المترجمة. حتى إنه نفسه قام بكتابة سيرة حياته بكتاب صدر بعنوان “حياتي ثلاثية الأبعاد”.
البرجوازي الوطني يبتكر حلولاً إنقاذية
وتظهر تحولاته الاقتصادية، منذ ماقبل الاستقلال إلى مابعد صعود الاشتراكيين البعثيين الى السلطة في سوريا، أول ستينيات القرن الماضي، نوعاً من أنواع التطور الذي شهدته العائلة التقليدية السورية التي تمتلك جذورا راسخة في التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد، خصوصا وهو ابن واحدة من أشهرها، وهي آل الأتاسي التي قدمت لسوريا عددا كبيرا من الزعماء السياسيين والقادة والزعماء.
على النقيض من تحولاته، سيسجل التاريخ السياسي السوري عددا من حالات “هروب” لشخصيات البرجوازية الوطنية، من قرارات الاشتراكيين التأميمية أو السالبة للملكيات. فبرز نادر الأتاسي واحداً من أشهر الشخصيات التي اكتشفت حلولاً خاصة، أقل من الهرب وأقوى من الاشتباك مع الجماعة الاشتراكية الصاعدة حديثا الى السلطة، منذ ذهابه الى بيروت وحصوله على إجازة في الهندسة من الجامعة الفرنسية فيها.
مسيرة تقارب القرن من الزمان، أظهر فيها نادر الأتاسي تحول العائلة السورية التقليدية ومقاومتها للمؤثرات الطارئة على بنيتها الاجتماعية وتصنيفها الطبقي الذي تعرّض لتهديد المنتصرين الجدد في عالم الاشتراكية الذي اعتنقه ضباط في الجيش السوري، ثم ألزموا مجتمعهم به في ثورة سياسية تركت أبلغ الأثر على بنية المجتمع السوري، منذ ما يزيد عن نصف قرن، وحتى الآن.