مقالات
د. عادل عبد السلام: ظاهرة لغوية اجتماعية أديغية (شركسية)
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
كنا مجموعة من الأصدقاء من طلبة الجامعة ومن خارجها نقضي سهراتنا في مقهى الصفا، الذي كان يقع مكان بناء الحايك عند جسر فيكتوريا في وسط دمشق، وكنا من شرائح المجتمع وفئاته الإثنية المختلفة، إذ كان بيننا أكراد وشركس وأرمن وسريان وعرب، من مسلمين ودروز ومسيحيين. قسم يلعب بطاولة الزهر، وأخرون بالورق (الشدة).
وكانت سهراتنا شبه ليلية، لاتمتد لأكثر من الساعة الثانية عشرة، إذ كان علينا العودة إلى منازلنا بآخر حافلات الترام التي تنطلق من ساحة المرجة (الشهداء) القريبة. إلى المهاجرين (التي كان ترامها الأخير يعرف بالقاشوش)، وإلى الشيخ محي الدين، وإلى القصاع. وكنا كثيراً ما نشكو حظنا العاسر في اللعب، فننحو باللائمة على الزهر والورق بكلمات نابية وشتائم باللغتين العربية ولغات الأصدقاء المختلفة. ولما كنت حينها مكلفاً من قبل الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق بوضع كلمات حرف الـ ( g G) للقاموس الشركسي الذي لم ير النور، خطرت لي فكرة غريبة وهي جمع تلك الكلمات، والأصح التعابير والجمل النابية والشتائم، باللغات المذكورة.
وبطرح الفكرة على الأصدقاء لاقى الاقتراح القبول، ووافق الجميع على الفكرة وأجمعوا على تكليفي بالتنفيذ مع إضافة اللغات التركية والانكليزية والفرنسية. على أن يقوم كل واحد منهم بتقديم ما يجمعه بلغته. وهذا ماحصل بالفعل. ولقد فوجئت بغزارة ماتم جمعه، لكن المفاجأة الكبرى كانت حين راجعت التعابير والشتائم المسيئة للخالق والأنبياء والأديان وموازنتها (مقارنتها) في اللغات المختلفة. إذ تبين أن اللغة العربية هي أغناها بالتعابير والشتائم عامة، وبهذه الزمرة من الكلمات والتعابير خاصة.
ليس هذا فحسب بل وجدت أن الكثير من التعابير والكلمات النابية والشتائم في اللغات الشرق أوسطية غير العربية، مستعارة من اللغة العربية كما هي أو حاوية في بعضها على كلمات عربية الأصل أو أنها مزدوجة اللغة ومركبة من كلمة عربية + أخرى.
وبالمقابل، والأغرب من ذلك أنني لم أتمكن من العثورعلى كلمة واحدة، أو تعبير واحد في اللغة الأديغية (الشركسية) يسئ للخالق أو الرب أو الدين أو الأنبياء ويشتمهم. الأمر الذي دفعني إلى سؤال كبار السن من الشركس الذين عجزوا عن إيجاد كلمة أديغية (شركسية) صرفة واحدة تتعرض للدين وممثليه وحملته. ناهيك عن الخالق. وبينوا أنهم لم يسمعوا بهذه التعابير والشتائم المذكورة إلا في اللغة العربية والتركية- العربية الدخيلة على اللغة الأديغية، بعد دخولهم وأسلافهم الأراضي العثمانية وبلاد ( شام شريف مقدس). ليس هذا فحسب بل وجدت إن كلمتي (اللعنة) و (البلاء) في الحديث الشركسي الدارج مأخذوتان من اللغة العربية والتركية، فهما (لانت лахьнэт ( و( بلاح бэлахь)…كقولك (تصيبك اللعنة лэхьнэтыр къыптеф) و (ليأخذك البلاء бэлахьым уехь). على سبيل المثال لا الحصر.
أترك تحليل هذه الظاهرة وتفسيرها عقائدياً وتاريخياً ونفسياً واجتماعياً وأخلاقياً للمختصين، لأنها تعكس أموراً كثيرة وجوانب اثنولوجية مهمة تستحق البحث والدراسة المتعمقة. لكنني أقتبس هنا ما ذكره المؤرخ الشركسي شورا نغومة في مؤلفه ” تاريخ الأمة الشركسية” في اربعينات القرن التاسع عشر 1844،(طبعة 1958 نالشيك، ص. 86- 87 ). وترجمة الكتاب من الألمانية إلى العربية على يد شوكت المفتي باسم: ” موجز تاريخ الجركس” (عمان 1953. ص. 42 ) بقوله:
” وقد أصبح بعد ذلك الآنت- الشركس- يضمرون للقيصر-جوستنيان- كل محبة ويخلصون له كل الإخلاص ويحترمونه إلى درجة التقديس حتى أنهم صاروا يحلفون باسمه وبمائدته، متى أرادوا أن يؤكدوا صدق قولهم، إذ كانوا لا يحلفون باسم الخالق الأعظم إلا نادراً، بل كانو يكتفون بالحلف باسم شخص عريق في المجد أو أي شخص كان ذي مكانة واحترام عندهم”.
فهل لهذا السلوك التقديسي ما يفسر خلو اللغة الأديغية (الشركسية) من كلمات أو تعابير تمس الذات الإلهية والديانات ؟؟؟؟ وهل يعرف أحد عن ظاهرة مماثلة تميز لغات أخرى لا أعرفها ؟
عادل عبد السلام (لاش)
دمشق: 17- 2 – 2019.