مقالات
نشوان الأتاسي: كيف ومتى وصل حافظ الأسد إلى السلطة في سورية؟
نشوان الأتاسي- التاريخ السوري المعاصر
استيلاء حافظ أسد على السلطة حدث يوم الثاني من شهر آذار عام 1969 وليس في السادس عشر من تشرين الثاني 1970م.
خلال شباط 1969، بعد أن قام رجال رفعت الأسد، شقيق حافظ، “باكتشاف” مخبر كان يحوم بسيارته حول منزل شقيقه، ما جعل رفعت “يشك” بأن عبد الكريم الجندي أرسله لاغتياله.
بدأ رفعت يحاول إقناع شقيقه بالتحرك ضد الجندي وإلا كانت حياته في خط، وعليه تحرك الأخير يوم 25 شباط، تحت ستار استنفار عسكري (رداً على غارات إسرائيلية على قرى في جوار دمشق) وأمر الأسد دباباته باحتلال نقاط إستراتيجية داخل العاصمة، وعزَل رجال جديد من مسؤولية الصحف الرسمية والحزبية (البعث والثورة) وعيّن فيها أشخاصاً محسوبين عليه، واحتل مباني إذاعتي دمشق وحلب، وطرد رجال جديد من مكاتب الحزب والدولة في اللاذقية وطرطوس.
استمر تحرك الأسد حتى 28 شباط حيث قام بضرب أجهزة مخابرات عبد الكريم الجندي بدمشق واعتقال كل رجاله، عندئذ أدرك الجندي فداحة ما يحصل، وأيقن بقرب نهايته.
وفي ليل 1 -2 آذار، حصل تبادل لفظي عنيف على الهاتف بين الجندي وعلي ظاظا رئيس المخابرات العسكرية الموالي للأسد، فأقدم الجندي إثرها على “الانتحار”.
ويعلق أكرم الحوراني في مذكراته على حادثة انتحار الجندي بالقول: تتضارب الأقوال حول انتحاره أو اغتياله بتاريخ 2 آذار 1969 وكان رفعت رأس الحربة التي استخدمها أخوه حافظ الأسد بمواجهة صلاح جديد في طريقه إلى الاستيلاء على السلطة والقضاء على نفوذ عبد الكريم الجندي.
ومن الجدير بالذكر أن زوجة الجندي “انتحرت” بعد عدة أسابيع من موت زوجها، كما أُطلق الرصاص من سيارة مسرعة على سائقه الذي سقط ميتاً في الشارع المتفرع من طريق الصالحية والمسمى بستان الرئيس. ومن طرائف السياسة في سورية، لكن شديدة الوضوح والتعبير، أن القيادة الحزبية والسياسية “الرسمية والشرعية” للبلاد، ممثلة بالأمين العام لحزب البعث، رئيس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء نور الدين الأتاسي، والأمين القطري لحزب البعث في سورية صلاح جديد، لم تعد تملك أية وسيلة إعلامية ضمن البلاد بعد أن استولى عليها كلها آمر سلاح الطيران ووزير الدفاع حافظ الأسد وجعلها تنطق باسمه.
اضطرت “القيادة الحزبية والسياسية” الحاكمة إلى إصدار صحيفة يومية في لبنان (صحيفة الراية) كي تكون الناطق باسم “الحكم الشرعي” في سورية.
بموت عبد الكريم الجندي، وإبعاد أحمد المير إلى خارج سورية، كما وإبعاد الأخوين سامي وخالد الجندي، تكون قد اكتملت تصفية كتلة الضباط والمسؤولين الاسماعيليين في الجيش والحزب، بعد أن كانت كتلة الضباط الدروز قد تمت تصفيتها خلال العامين 1966 و 1967، كما جرت الإشارة إليه سابقاً.
وإذا أضفنا محمد عمران إلى لائحة المبعدين، نجد أنه لم يبق من أعضاء اللجنة العسكرية الخماسية في السلطة، وفي البلاد، سوى صلاح جديد وحافظ الأسد، الذي تمكن من حسم الصراع لصالحه خلال أحداث شباط 1969 الآنفة الذكر، لكنه لم يشأ استلام السلطة مباشرة، ربما انتظاراً لظروف إقليمية ودولية أكثر ملائمة، ففضل إبقاء مظلة القيادة السياسية القائمة، لكن مفاصل السلطة الأساسية في البلاد أصبحت طوع بنانه.
في حقيقة الأمر فقد جرى، عسكرياً وعملياً، حسم الصراع بين الرجلين خلال أحداث شباط 1969، ولم يتبق سوى “الإعلان السياسي” عن الانتصار النهائي لحافظ الأسد، هذا الإعلان الذي كان مرهوناً، على ما يبدو، بمجموعة من المعادلات الدولية والإقليمية التي ما لبثت أن أطلّت عبر أحداث شهر أيلول من العام 1970، والدور الملتبس لحافظ الأسد من خلال الدفع بالقوات السورية إلى الأردن لحماية المقاومة الفلسطينية في حربها ضد جيش الملك حسين، تنفيذاً لقرار القيادة السياسية التي كانت لا تزال في واجهة الحكم، لكن دون أن يعمل الأسد على تأمين الغطاء الجوي الضروري للعمليات الأرضية.
وكانت النتيجة أن تعرضت تلك القوات لمذبحة مروّعة على أيدي القوات المدرعة والطيران الأردنيين اللذين كانا مسبقاً على علم وجاهزية للتعامل معها. وما أن انتهى شهر أيلول حتى أُعلن عن وفاة جمال عبد الناصر في مصر واستلام أنور السادات لمقاليد السلطة هناك، فبدت أحداث أيلول “الأسود” كلها بمثابة تحضيرٍ لخشبة المسرح السياسي في الشرق الأوسط لظهور حافظ الأسد.
وفي الثامن عشر من تشرين الأول استقال نور الدين الأتاسي من كافة مناصبه في الحزب والدولة، فانعقد المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر لحزب البعث بدمشق في أواخر تشرين الأول 1970 في محاولة لإيجاد حلٍ لأزمة الحزب المتجددة، بيد أنه قبيل ذلك بوقت قصير قام الأسد بنقل بعض من تبقى من أنصار جديد العسكريين، استعداداً لأي حدث محتمل، وليكون قادراً على فرض إرادته على خصومه السياسيين إذا ما سار المؤتمر في غير صالحه.
وأثناء المؤتمر بات واضحاً أن الأسد وأهم مؤيد عسكري له، مصطفى طلاس، كادا أن يكونا معزولين تماماً، بينما تمتع جديد وحلفاؤه بتأييد غالبية أعضاء المؤتمر. أما في القوات المسلحة فقد كانت العلاقات بين المعسكرين السياسيين الرئيسيين على عكس ذلك تماماً.
وعندما أصدر معظم أعضاء المؤتمر في النهاية قراراً “غير واقعي” بإعفاء كل من وزير الدفاع، الأسد، ورئيس أركانه، طلاس، من منصبيهما العسكريين وتكليفهما بمهام حزبية في الحزب حسب ما تقرره قيادة الحزب، فقد استطاع الاثنان اتخاذ إجراءات مضادة فعالة على وجه السرعة.
وفي الثالث عشر من تشرين الثاني أمر الأسد العسكريين باحتلال مكاتب القسم المدني للحزب، وكذلك المنظمات الشعبية البعثية، بالإضافة إلى إلقاء القبض على أبرز قادة الحزب المدنيين، بمن فيهم صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، وقد فرّ الكثير من أعضاء المؤتمر إلى لبنان، بغية تفادي الاعتقال، واستمروا في معارضة النظام السوري الجديد من هناك.
هذا ولم يحصل القسم المدني لحزب البعث تحت نظام حكم الأسد مرة أخرى على المركز القوي الذي حظي به لبعض الوقت خلال المدة السابقة.
ويتحدث كمال ديب عن فترة انعقاد ذلك المؤتمر فيقول: كان الأسد قد احتاط للأمر وأمر بتطويق قاعة المؤتمر بالجنود، وحاصرت مجموعة من المخابرات وسلاح الجو والقوات الخاصة بقيادة رفعت الأسد قاعة المؤتمر، فقلق أنصار جديد من أن يُقدم الأسد على اعتقالهم. وإذ انفض المؤتمر مساء يوم 12 تشرين الثاني دون التوصل لاتفاق، أمر الأسد، فجر 13 منه، وحدات من الجيش باحتلال مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية واعتقال عدد من الضباط وكبار القادة السياسيين.
وفي هذا التحرك تسلم رفعت أمن العاصمة في حين ضبط طلاس وقائد العمليات الجوية ناجي جميل، الوضع داخل القوات المسلحة لمنع أي مقاومة للحركة الانقلابية. وتولى محمد الخولي مهمة اعتقال رجال جديد في الحزب والجيش ودوائر الدولة.
وشمل هذا التحرك كافة المدن السورية. وشرح الأسد فيما بعد أن ما قام به لم يكن انقلاباً بل إجراء تغيير داخل الحزب أو “حركة تصحيح للأمور”.
وفي الحقيقة لم يكن ثمة إهراق للدم أو إطلاق للنار، ولم يلحظ أحد أي تحرك عسكري علني، فيما كانت الأسواق تعمل يوم 13 تشرين الثاني والطرق مزدحمة ولم تغلق الحدود مع لبنان.
كان السادات والقذافي يتابعان ما يحدث في سورية صبيحة 13 تشرين الثاني، ولم يتضح لهما مآل الأمور بين الأسد وجديد فقرر القذافي التأكد بنفسه، وهبط فجأة في مطار دمشق في 16 تشرين الثاني، وجلس في قاعة الشرف في المطار وطلب لقاء “زعيم سورية”، ثم اطمأن عندما جاء الأسد إلى المطار للقائه، وأبلغه القذافي أنه يحمل دعم مصر وليبيا والسودان لحركته ما خلق الارتياح لدى الأسد لأن موقف هذه الدول سيجلب له دعم التيار الناصري في سورية ونظرة أكثر إيجابية لحركته في كوادر حزب البعث.
وهكذا، وبعد تردد ثلاثة أيام صدر بيان مساء 16 تشرين الثاني يعلن استلام الأسد للسلطة. لكن الحقيقة أن فترة التردد تلك التي ذكرها كمال ديب، لم تستغرق ثلاثة أيام فقط، فقد كانت مستمرة بالفعل منذ انقلاب 25 شباط 1969. فهل كان الأسد طوال تلك الفترة في انتظار المجهول الذي تمثل بموت عبد الناصر وصعود السادات، ومن قبله صعود القذافي والنميري إلى قمة السلطة في بلادهم خلال عام 1969، ثم زيارة القذافي “المفاجئة” لمطار دمشق طالباً لقاء “زعيم سورية”، كي يعلن على الملأ إثرها أنه أضحى حاكم سورية الأوحد، أم كانت هناك أمور أبعد من ذلك وأعمق؟
ويلمّح كمال ديب إلى تسلسل الأحداث هذا بقوله: لقد تركت وفاة عبد الناصر في أيلول، قبل أقل من شهرين من وصول الأسد للسلطة، فراغاً هائلاً في ريادة القومية العربية، مما أفسح المجال للأسد نفسه ليلعب دوراً عربياً قيادياً
. وعلى كل حال، يبقى هذا سؤالاً جديداً يضاف إلى قائمة الأسئلة المتعلقة بتاريخ سورية الحديث، وسيكون مصيره كمصير باقي الأسئلة السابقة، التي لن يقدر التاريخ على تقديم أجوبة شافية عنها طالما ظلّت مفاعيل تلك الأحداث قائمة.