ليست هذه المرة الأولى التي يحاول باحثون غربيون تحليل نظام الحكم في سوريا حسب نظرية” المُلك” لابن خلدون، فقد سبق ليون غولد سميث مؤلف كتاب دائرة الخوف العلويون السوريون في السلم والحرب الصادر عام 2016، سبقه ميشيل سورا بكتابه الشهير الذي كلفه حياته على يد ميليشيا حزب الله، وسماه سوريا المتوحشة، الذي هو عبارة عن دراسات ومقالات اجتماعية ميدانية قام بها الباحث على مدى عشر سنين من العيش في سوريا ولبنان، بين عامي 75 و85 من القرن الماضي.
توريط العلويين
الكتاب الصادر عن الدار العربية للعلوم “ناشرون” هو عبارة عن رسالة دكتوراه كتبها الباحث النيوزلندي الجنسية، ثم تمت ترجمتها إلى العربية على يد عامر شيخوني، أخبرني ليون غولد سميث أن النسخة العربية مختلفة تماماً عن نظيرتها الإنكليزية، وسأتناول هذا المؤلَّف عبر مقالين.
أياً يكن يحاول الكتاب أن يفسر التفاف العلويين حول نظام الحكم في سوريا، حسب نظرية ابن خلدون، فيرى أن العصبية هي التي جعلت العلويين يصلون للحكم، لكن العصبية لم تضعف عندهم، كما عند غيرهم في الجيل الثاني، الذي جاء في ظل انقسام طبقي علوي، فالجيل الثاني رغم أنه عاش في دمشق حياة مترفة كبرجوازيي المدن “فقدوا اتصالهم بالصفات الريفية والاجتماعية والمساواة لأبناء الطائفة” والسبب حسب الباحث هو خوف العلويين من انتقام الأكثرية، في حال إسقاطهم من الحكم، في آخر 2012 عندما كان النظام في أضعف أيامه، وكان هناك تململ علوي من نظام حكمهم، تم تسريب عشرات مقاطع الفيديو التي تظهر عناصر أمن علويين يعذبون مواطنين سوريين، وهذا ما رأى فيه كثيرون حينها محاولة لتوريط العلويين مع النظام.
الأسد لم يطوّر العلويين
عبر 372 صفحة يحاول الكاتب تأييد وجهة نظره عبر سرد تاريخي لتاريخ العلويين الطويل، كطائفة تعرضت للاضطهاد، ومعتقدات باطنية مجهولة تم الكشف عنها لأول مرة في القرن التاسع عشر على يد سليمان الأضني الذي انشق عن الطائفة واعتنق المسيحية، بعد أن كشف بعض المعتقدات في كتابه “الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية” ولكن العلويين لاحقوه حتى دفنوه حياً، حسبما يقول الكاتب.
يرى المؤلِف أنه رغم بعض التطور الذي طرأ على حياة العلويين، إلا أن نظام الأسد لم يحقق لهم تطوراً هاماً على صعيد حياتهم الاجتماعية، ولا تحسناً في مستوى المعيشة للغالبية العظمى من العلويين، فضلاً عن سلبهم كثيراً من هويتهم الدينية التي حافظوا عليها في ظروف صعبة على مر العصور، “من النتائج الشائعة لسياسة الخوف الطائفي صعوبة التوصل إلى التعددية السياسية الحقيقية في الدولة، والميل إلى تركيز السلطة في يد فئة مستبدة، وحدوث الصراع في المجتمع”.
أهم الدراسات عن العلويين صادرة في إسرائيل
الباحث الذي قام برحلتين إلى سوريا عام 2009 و2011 كي يكتشف عن كثب طبيعة حياة العلويين لم يُسمح له بإجراء لقاءات مع رجال دين علويين في سوريا، بل تعرض للاعتقال على يد النظام وتم مسح ذاكرة كاميرته، فأجرى لقاءات مع رجال دين علويين في تركيا، ومع عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق وديتليف ميليس رئيس المحكمة الدولية للتحقيق في مقتل رفيق الحريري، و يقول رغم أن هناك اهتماماً على صعيد الدراسات بسياسة نظام الأسد، ولكن هناك فقر على صعيد دراسة الدين العلوي، وأكثر الدراسات الموثوقة في هذا الصدد هي الصادرة عن باحثين إسرائيليين.
بعد ثورات الربيع العربي.. سقطت العديد من الأنظمة كما في تونس ومصر وليبيا واليمن، وهي أنظمة كانت تعتمد على ولاءات قبلية أو تحالفات حزبية ذات شعور جماعي “عصبية ضعيفة نسبياً”، بينما صمدت الأنظمة الأقلوية بفعل تعاضد طائفتها معها، كما في سوريا والبحرين، حيث اقترح بعض الباحثين بإدراج العصبية الطائفية في إطار نظريات ابن خلدون الاجتماعية، ونظرية مؤسس علم الاجتماع قائمة بالأساس على ثلاثة عناصر وهي العصبية العلوية والدعوة وهي أيديولوجية حزب البعث كواجهة ومبرر شرعي للسيطرة، والحُكم وهو مقاليد السلطة في سوريا.
الشيعة يرون النصيريين مهرطقين
بالعودة إلى تاريخ الطائفة العلوية فقد تأسست على يد محمد بن نصير النميري المولود في العراق في نهاية القرن التاسع الميلادي، وهو كان مرافقاً لأئمة الشيعة العاشر علي الهادي والحادي عشر الحسن العسكري وابنه الثاني عشر المهدي، حيث سوق لنفسه على أنه باب هذين الإمامين، وعنده أسرارهما، وهو ما اعتبره الشيعة الاثنا عشرية خروجاً على الملة، وبالتالي اعتبر منشقاً عن الشيعة ما اضطره للتخفي والتنقل في البلدان، واعتُبر النصيريون من غلاة الشيعة، حيث يسبغون من صفات الألوهية على علي بن أبي طالب.
نتيجة ملاحقات من قبل الشيعة الاثنا عشرية والدولة العباسية في بغداد اضطر خلفاء ابن نصير للهروب من العراق، ومنهم الحسين الخصيبي، الخليفة الأبرز الذي تعرض للسجن في العراق فهرب إلى حلب في عصر الحمدانيين، وقبره ما يزال هناك إلى اليوم، وكان يوهم الحمدانيين أنه اثنا عشري، تقيةً وخوفاً من القتل، وبعدة حروب مع السنة أو الإسماعيليين أو حتى الدروز استقر العلويون في سلسلة جبال اللاذقية الوعرة والفقيرة، خوفاً من الملاحقة والاضطهاد، خصوصاً عقب انتصار السلاجقة الأتراك في معركة ملاذكرد، والتي أحكموا نتيجتها السيطرة على شرق الأناضول، وشرق المتوسط، وإثر الفتوى الشهيرة لابن تيمية، والتي أباح دمهم بمقتضاها “أدى هذا التغير إلى انتقال الطائفة من العمران الحضري إلى العمران البدوي، ومن جماعة منتشرة في المجتمع إلى أقلية متماسكة، وقد أدى هذا التراجع التدريجي والانعزال الريفي إلى بذور تشكل العصبية الطائفية العلوية”.
شك بدور العلويين خلال الحروب الصليبية
وبعد الحروب الصليبية “كان لدى السنة شك كبير بالدور الذي لعبته الطوائف الشيعية إلى جانب الصليبيين، فراقبوا العلويين بشكل دقيق. عادت أحوال العلويين إلى التراجع من جديد عندما أصبحوا أقلية صغيرة متباعدة في مواجهة أكثرية سنية قوية، وفقدوا الاستقلال النسبي والحرية الديينية التي تمتعوا بها خلال وجود الصليبيين، وعادوا إلى حالة من الانعزال والخوف الطائفي”.
طبعاً قام العلويون بالعديد من الثورات، مثل ثورة 1318 على المماليك والتي قام بها رجل من إحدى قرى جبلة يدعي أنه المهدي المنتظر، حيث هاجم مدينة جبلة، وأعلن أنه أصبح الحاكم الفعلي، وتحت إمرته 3000 مقاتل، إلا أن والي طرابلس أرسل له ألفاً من الفرسان، فقتلوه وقتلوا معه 600 من جنوده، وحينها أمر السلطان المملوكي بالقضاء على العلويين نهائياً، إلا أن والي طرابلس قد وقف إلى جانبهم،”النصيريون يقومون بخدمة المسلمين بفلاحة الأرض، وأن القضاء عليهم قد يضعف المسلمين، فعفا السلطان عنهم”.
لم يشكل العلويون خطراً على العثمانيين
في عهد العثمانيين، يقول الكاتب إنه تم دمج العلويين بطريقة خاطئة في نظام الملة العثماني، “وفيما عدا بعض المشاكل الصغيرة التي سببها ثوار علويون عامي 1691 و1692 فقد خضع العلويون ولم يشكلوا أي خطر استراتيجي، ولعبوا دوراً هاماً في زراعة التبغ”، والتي كان أكبر المستفيدين منها هم التجار المسيحيون والسنة.
حينها كان كل تمرد علوي يتم القضاء عليه بقوة، كتمرد الشيخ العلوي صقر محفوظ، وتمرد الكلبيين قرب القرداحة، يرى الكاتب أن استخدام القوة المفرطة من قبل العثمانيين ينسجم مع نظرية ابن خلدون، “أن المبالغة في القوة هي من عوارض انهيار الدولة”. بعد ذلك بدأت العصبية تظهر لدى العلويين في جبالهم، فظهر الزعماء الذين حولهم أتباع مسلحون، وقد اعتمدت الدولة العثمانية على بعضهم من أجل تحصيل الضرائب، وهم الذين أُطلق عليهم اسم ” المقدَمون”.
العصبية العلوية وتشكيل السياسة السورية 1831-1970
ويقسم الكاتب مسار العلويين نحو الاندماج إلى أربعة مراحل: شهدت الفترة 1832-1918 انهيار السلطنة العثمانية وظهور فرص للعلويين للتعبير عن أنفسهم سياسياً واجتماعياً، وشهدت الفترة 1919-1945 استقلالاً ظاهرياً علوياً عبر دولة العلويين التي أنشأها الفرنسيون، وهم الذين دفعوا بالعلويين للقبول باندماج الطائفة في الدولة السورية الوليدة، وحينها سعى العلويون بنشاط للدخول في الحياة السورية، وخصوصاً في الجيش، الفترة المرحلة الثالثة: عام1963 وهي المرحلة التي قامت بها اللجنة العسكرية المؤلفة من ضباط ينتمون بغالبيتهم للأقليات بالسيطرة على مقاليد الحكم في سوريا، عبر انقلاب الثامن من آذار البعثي الذي “أتى بثورة اجتماعية لصالح الأقليات الريفية الفقيرة، مثل العلويين”، وفي تلك الفترة كان العلويون يحكمون عبر وضع قادة سنة ضعافاً في الواجهة مثل أمين الحافظ ونور الدين الأتاسي، ولكن بعد عام 1970 حيث تبدأ المرحلة الرابعة، أصبح حافظ الأسد الحاكم الفعلي لسوريا.