نشر القيادي البارز في الحزب السوري القومي الاجتماعي عصام المحايري ثلاثة مقالات عن اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق 1955 محاولاً الكشف عن أسرار ذلك الحادث وتحليل خلفياته.
وبعد شهر على تلك المقالات تنشر “الحياة” رد الصحافي السوري مطيع النونو، بمناسبة 51 سنة على إعدام أنطون سعاده، الذي يعرف المحايري وسعاده وعايش تلك الأحداث وما سبقها من صراعات حزبية وتصفيات متتالية تُوجت باغتيال المالكي وغسان جديد. فالنونو لا يرد مباشرة على المحايري بل ينطلق من مقالاته لقراءة الظروف السياسية والعقائدية التي سبقت الحادث ومهدت له. فالاغتيال هو جزء من صراع شامل بدأ بإعدام سعاده الذي دشن سلسلة انقلابات عسكرية في سورية.
> تحدث الأستاذ عصام المحايري النائب السابق في البرلمان السوري عام 1949 ممثلاً عن الحزب السوري القومي الاجتماعي وعميد الإذاعة والإعلام في الحزب، ورئيس تحرير مجلة “بناء” الناطقة بلسان الحزب في صحيفة “الحياة” وفي حلقات ثلاث الأعداد 13555 و13556 و13557 عن حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي معاون رئيس الأركان العامة ورئيس الشعبة الثالثة في الجيش السوري عام 1955 وعن ملاحقة أعضاء الحزب القومي واعتقالهم وصدور الأحكام بحقهم لعلاقتهم بهذا الحادث.
وللحقيقة التاريخية أن حادث اغتيال المالكي وبهذه الصورة التي رسمت بكل دقة وبشكل سري هز الوطن السوري وقياداته العسكرية، لأن العقيد المالكي كان في السابعة والثلاثين من عمره، وهو شخصية عسكرية فاعلة ومن خيرة الضباط آنذاك وله مواقف وطنية ومتمسك بعروبته القومية. وهو غير حزبي ملتزم ولكنه يدعم مواقف حزب البعث العربي الاشتراكي لأن شقيقه الأستاذ رياض المالكي المحامي البارز في دمشق عضو فاعل في الحزب المذكور.
وبما أنني عايشت هذا الحادث وتابعت كل تفاصيله من خلال ممارستي لمهنة الصحافة باعتباري صاحب وكالة إخبار “محلية” توزع على كل الصحف السورية، سأقوم بمداخلة في هذا الحادث وأسبابه القريبة والبعيدة لأن الأستاذ المحايري ركز في الحلقات الثلاث على التحقيقات في الحادث، والمحاكمات لأعضاء الحزب من دون التعرض لخلفيات ومضاعفات القضية.
كان حادث اغتيال المالكي بمثابة انقلاب عسكري جديد من ضمن الانقلابات العسكرية التي شهدتها سورية بدءاً من 30 آذار مارس 1949 الذي قام به علناً الجنرال حسني الزعيم رئيس أركان الجيش السوري وتبيّن أن وراء الانقلاب المقدم أديب الشيشكلي وهو الذي كان وراء الانقلاب الثاني أيضاً الذي تزعمه الجنرال سامي الحناوي. وتم كشف أديب الشيشكلي عن وجهه الحقيقي وظهر على المسرح السوري بأنه صانع هذه الانقلابات التي جرت خلال عام 1949 وحكم سورية واستمر حتى عام 1954، وتم تصفية الكثيرين من القادة العسكريين أو إبعادهم عن الجيش.
إن تاريخ نشاط الحزب القومي السوري بدأ في سورية بشكل سري عام 1936 عندما اتفق أنطون سعاده مع السياسي الحموي أكرم الحوراني على قيام فرع للحزب القومي في مدينة حماه برئاسة الحوراني بهدف مناهضة الاحتلال الفرنسي. واستمر الحوراني في نشاطه للحزب القومي بشكل سري حتى عام 1938 وهو شاب في مقتبل العمر.
وتبيّن لسعاده أن الحوراني شذ عن مبادئ الحزب فأصدر قراراً بطرده من حزبه. وتابع سعادة نشاطه بين الشباب السوري واللبناني مروجاً لمبادئ الحزب.
واعتمد الحزب القومي على العناصر العسكرية التي توسعت في الجيشين السوري واللبناني وتم تشكيل لجنة الضباط في الحزب لتسلم الحكم سواء في سورية ولبنان مستقبلاً. وفي الوقت نفسه سعى أكرم الحوراني بعد طرده من الحزب القومي وتشكيله الحزب العربي الاشتراكي الى تطبيق مبادئ سعاده في حزبه الجديد لاجتذاب العناصر العسكرية الشابة إلى صفوف حزبه ودفع الطلاب للانتساب الى الكليات العسكرية والاعتماد عليهم، ولهذا أطلق على الحوراني “الجنرال المرتدي لباساً مدنياً”.
كان أنطون سعاده يعمل محرراً في جريدة “الأيام” الدمشقية في الأربعينات لصاحبها نصوح بابيل نقيب الصحافة، كما كان مؤسس حزب البعث العربي ميشيل عفلق ينشر مقالات في “الأيام” يتحدث فيها عن تطلعاته المستقبلية. وفي عام 1945 تعرفت الى أنطون سعاده حين كنت في زيارة الأستاذ بابيل في مكتبه للعمل الصحافي، وكان ذلك اللقاء عابراً ومن دون خلفيات، لأنني لم أتوسع في مبادئ الأحزاب والوقوف على خلفياتها.
كذلك عرفت حسني الزعيم عام 1946 وكان من زبائن مقاهي دمشق وعلمت أن سمعته الأخلاقية سيئة وهو مقامر ومغامر أيضاً في مواقفه. كنا نلتقي بطريق المصادفة في مقهى “الطاحونة الحمراء” وهو ملتقى السياسيين والنواب ومنهم السياسي الاشتراكي أكرم الحوراني، نائب حماه، وغيره من السياسيين في المحافظات الأخرى.
وفي صباح كل يوم جمعة كان يلتقي في مقهى “الفاروق” مع حلقة أخرى منها الدكتور عبدالكريم العائدي مدير شرطة دمشق، والدكتور أمين رويحة، والدكتور صبحي أبو غنيمة أردني والدكتور بشير القضماني من أقطاب الحزب الوطني، وكنت أشارك في تلك الجلسة ويدخن الجميع “النرجيلة” من التنباك الأردني النفيس.
وكان حسني الزعيم يتحدث في كل حلقاته بالمقاهي عن تعاسة وضعه المعيشي رغبة منه في أن ينقل حديثه للمسؤولين وبخاصة لرئيس الجمهورية شكري القوتلي ليرأف بحاله. وفي بعض الجلسات كان حسني الزعيم يردد أمامنا قائلاً: “الله يحكّمني بهذا البلد ولو لمدة 24 ساعة لأنتقم من أوضاعي”.
في يوم من أيام الجمعة اصطحب الزعيم صديقه أنطون سعاده إلى مقهى الفاروق وقدمه لنا وحسني الزعيم مولع بلعب طاولة “الزهر” وجرت مباراة في تلك الجلسة بينه وبين سعاده وكانت النتيجة تغلب الزعيم على سعاده فقال له: “حطمتك يا أنطون”.
وروى لنا حسني الزعيم أنه خلال إقامته في بيروت كان يتبارى مع سعاده بالطاولة في “مقهى القزاز” في البرج ويغلبه في أكثر المباريات.
بلغ الرئيس القوتلي وضع الزعيم ومن شفقته عليه أعاده إلى الخدمة العسكرية عام 1946 وعينه رئيساً للمحكمة العسكرية في محافظة “دير الزور” ثم نقله لمنصب المدير العام للشرطة، وانهالت الوساطات على الرئيس القوتلي بهدف تعيين الزعيم قائداً للجيش السوري الحديث فأصدر قراراً بذلك عام 1948 قبل بدء الحرب الأولى بين العرب واليهود.
ومن حب الزعيم للمغامرة ألقى يوم 23 تشرين الثاني نوفمبر 1948 خطاباً موجهاً لقطاعات الجيش بعد نكبة فلسطين أعلن فيه: “ما وصل إليه الحال في الوطن العربي نتيجة حتمية للإهمال وتسيّب الحكام والجيوش العربية، إذ لا سبيل لإصلاح الأوضاع إلا باستعمال القوة…إلخ..”.
وفعلاً قام حسني الزعيم بالانقلاب العسكري الأول يوم 30 آذار مارس 1949. وسيطر على حسني الزعيم جنون العظمة وأخذ يظهر على صفحات الصحف والمجلات العربية والأجنبية.
وحملت بعض الصحف اللبنانية بعنف على حسني الزعيم، وكانت “الحياة” في مقدم الصحف التي حملت على زعيم الانقلاب السوري، إذ فضل صاحبها الأستاذ كامل مروة ـ رحمة الله عليه ـ أن يتحدث بصراحته المعهودة بأن العهد السوري ما زال في عالم الغيب وهو محاط بعلامات الاستفهام وبغيوم كثيرة.
هذا الموقف لم يعجب الجنرال حسني الزعيم بينما رحبت بعض الصحف اللبنانية الأخرى بالانقلاب. وعوملت “الحياة” معاملة سيئة. وبطش حسني الزعيم بكل صحيفة لم تترام على قدميه، وضغط على الحكومة اللبنانية لتستخدم سلطان الرقابة لكتمان ما يجري في الوطن السوري.
واكتشفت السلطات الأمنية اللبنانية يوم 22 نيسان أبريل 1949 محاولة لاختطاف صاحب “الحياة” من عناصر سورية بعث بها جهاز حسني الزعيم. وأبلغت الجهات اللبنانية الأستاذ مروة بتلك المحاولة وطلبت إليه الحذر واتخاذ الحيطة في تنقلاته.
وبسبب معارضة بعض الصحف لحسني الزعيم وجه زعيم الانقلاب تهديداً مباشراً للرئيس رياض الصلح وقال إن سورية ستقطع كل اتصال مع الحكم اللبناني، فأوفد بشارة الخوري رئيس الجمهورية رئيس أركان الجيش العقيد توفيق سالم حاملاً رسالة لحسني الزعيم أكد فيها رغبة لبنان في استمرار التعاون الأخوي.
وانتخب الزعيم في 25 حزيران يونيو 1949 رئيساً للجمهورية وأصبح الرئيس الخامس لسورية.
لجأ أنطون سعاده زعيم الحزب القومي إلى سورية يوم السبت 11 حزيران بعد أن لاحقته الأجهزة الأمنية اللبنانية بسبب الاصطدامات التي وقعت في حي الجميزة في مدينة بيروت يوم الجمعة العاشر من حزيران بعد أن أجرى حزب الكتائب اللبنانية احتفالاً لتكريم رئيس الحزب الشيخ بيار الجميل.
وعندها قامت الحكومة اللبنانية بحملة اعتقالات من الحزب القومي بتهمة تنظيم مؤامرة مسلحة لقلب نظام الحكم فاعتقلت الأجهزة اللبنانية أركان الحزب وتمكن سعاده من الهرب إلى دمشق.
وارتمى سعادة في أحضان حسني الزعيم صديقه القديم فمنحه حق اللجوء السياسي وأهداه مسدسه الخاص توثيقاً للصداقة بينهما، وقدم له منزلاً ليقيم به في دمشق.
وفي مطلع تموز يوليو وصل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح إلى دمشق حاملاً رسالة من الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية طالباً تسليم سعاده. واجتمع الصلح بالدكتور محسن البرازي رئيس الوزارة السورية الجديدة باعتبار أن الصلح تربطه به علاقة مصاهرة وطلب الصلح من عديله مساعدته في هذه المهمة الصعبة.
وبسبب الضغوط التي تلقاها الزعيم وافق على تسليم أنطون سعاده يوم الأربعاء السادس من تموز يوليو 1949 ليلاً. وكلف المقدم إبراهيم الحسيني مدير الشرطة العسكرية القيام بتسليمه إلى لجنة لبنانية رسمية عند نقطة الحدود في “المصنع”. وضمت اللجنة الأمنية اللبنانية العميد نورالدين الرفاعي قائد الدرك اللبناني والأمير فريد شهاب مدير الأمن العام. وقررت المحكمة العسكرية الحكم عليه بالإعدام. واستمع رئيس الجمهورية إلى وكيل المحكوم عليه ثم أصدر بتاريخ السابع من تموز مرسوماً بتصديق حكم الإعدام وتنفيذه في الثامن من تموز 1949.
وكان للحزب القومي السوري قواعد لا يستهان بها في القيادات العسكرية في الجيش السوري، فثارت تلك القواعد الناقمة على الزعيم حسني الزعيم بسب تسليمه زعيم الحزب. ومن أبرز تلك القواعد القيادات الفاعلة التي تسيطر على القطعات المتحكمة في الجيش وأسلحته ومن المؤيدين للمقدم أديب الشيشكلي الذي سرحه زعيم الانقلاب الأول.
وشهدت سورية مرحلة صراع علني للتخلص من حسني الزعيم الذي فرض نفسه على مقدرات سورية وأصبح زعيمها الوحيد ونسي أن ضباط الجيش هم الذين أوجدوه وفرضوه على الحكم.
وفي صباح 14 آب أغسطس 1949 وقع الانقلاب الثاني بقيادة الجنرال سامي الحناوي قائد الجيش وأطيح زعيم سورية “المزيف” حسني الزعيم ورئيس وزرائه الدكتور محسن البرازي. وحكم على الزعيم والبرازي بالإعدام ضباط من جماعة الحزب القومي اعتقلوهما في ساعة مبكرة من يوم الانقلاب ونقلوهما إلى الصحراء بالقرب من منطقة المزة مطار دمشق القديم ونفذ فيهما حكم الإعدام من دون محاكمة وبالسرعة القصوى التي جرت لأنطون سعادة في لبنان. والضباط هم: المقدم عصام مريود، والمقدم فضل الله أبو منصور، والمقدم حسين الحكيم.
وكان هدف الانقلاب الثاني الاتفاق مع العراق لقيام اتحاد سياسي مع سورية، وأعيد المقدم أديب الشيشكلي راعي الانقلابات لموقعه في الجيش السوري وعين قائداً له، وجرت انتخابات نيابية لاختيار جمعية تأسيسية لإعداد دستور جديد.
وشاركت في تلك الانتخابات كل الأحزاب الكبيرة والعقائدية ومنها الحزب القومي. واستطاع هذا الحزب أن يوصل عصام المحايري الى المجلس النيابي. وتم انتخاب الرئيس هاشم الأتاسي من حمص لرئاسة الجمهورية الخاصة بإجماع الأصوات.
وقبل أن يصوت المجلس التشريعي الجديد على الاتحاد مع العراق بساعات حرض الحوراني العقيد أديب الشيشكلي ليقوم بدور جديد للقضاء على زعيم الانقلاب الثاني سامي الحناوي المؤيد للاتحاد مع العراق، فوقع الانقلاب الثالث يوم 14 كانون الأول ديسمبر 1949 بقيادة العقيد أديب الشيشكلي بعد أن حكم الحناوي سورية أربعة أشهر وخمسة أيام، وعومـل معاملة طيبة وسمح له زعيم الانقلاب الثالث بأن يغادر سورية ليقيم في لبنان.
وفي يوم 31 تشرين الأول أكتوبر 1950 اغتيل الزعيم الحناوي في منطقة المصيطبة في بيروت، وهو الحي الإسلامي الذي عاش فيه، على يد المواطن الحموي حرشو البرازي انتقاماً لمقتل الدكتور محسن البرازي. وهكذا بدأت التصفيات الجسدية بين القيادات العسكرية في الجيش السوري.