الجانب الإسلامي الأممي من شخصية شكيب أرسلان له أبعاد ومستويات:
المستوى الشخصي الفردي أولاً: كان شكيب أرسلان مسلماً متديناً يصوم ويصلّي ويزكّي ويحج ويجاهد ويطبّق كل أركان الإسلام وضوابطه في حياته اليومية. هذا التدين في سلوكه اليومي وخاصة في علاقته بالناس وفي الأخلاق والوعي الإسلامي المنفتح، هو أمر واضح جداً في كل حياته منذ ولادته حتى وفاته، كما هو واضح في نشأته وتعليمه وتربيته: عندما يذهب الى دمشق لطلب العلم على مفتي دمشق الشيخ محمد المنيني… وعندما يأتي ويلتحق بالشيخ محمد عبده عندما كان في المنفى هنا في بيروت وكان يسكن في منزل في المصيطبة لآل حمادة فكان يأتي ويتتلمذ على يديه… أو عندما يحاور ويصادق السيد جمال الدين الأفغاني وهو في مقتبل شبابه فيبعث بخطابات ومقالات للسيد الأفغاني باعث نهضة الشرق والذي كان قد دوّخ العالم في ذلك الزمن… ومن ناحية أخرى هناك تمسكه بالتقاليد العربية الصافية وبالأخلاق الإسلامية واعتزازه وفخره بأسرته. فاهتمامه بالنسَب مثلاً لا ينبع من موقف عائلي أو من عصبية عشائرية بقدر ما أنه يستجيب لضرورات إسلامية وعملية. فهو بدأ بسجال بينه وبين طه حسين حول ما ورد في كتاب هذا الأخير (الشعر الجاهلي) الذي شكك فيه في صحة الكثير من الأشعار وأيضا الكثير من الأمور انطلاقاً من تهكمه على مسألة الأنساب عند العرب. فكان كلام أرسلان يهدف الى تصحيح الاعتقادات حول النسب والأنساب والتدليل على عناية العرب والمسلمين بالتحقيق والتدقيق وبالتوثيق والإسناد كما يظهر ذلك خصوصاً في علوم الحديث والقرآن وعلم الرجال. فكتب شكيب أرسلان في مقالاته على تأكيد أهمية حفظ الأنساب في بلادنا العربية وعند المسلمين عموماً وعند البدو بخاصة… ثم تحدث عن نسبه وعن عائلته انطلاقاً من مقولة أنهم جاءوا الى هذه البلاد للذود عن الإسلام وأن كل هذه القبائل وكل هذه العائلات التي استوطنت بلاد الشام ثم تمذهبت على مذهب الموحدين إنما كانت هي السيف المدافع عن الفكرة الإسلامية في كل الحقبات والعصور. وهاجس الدفاع عن الإسلام نجده عنده حتى في الناحية الشخصية وفي الناحية العائلية.
أما في الشأن الطائفي أي فيما يخص طائفة الموحدين فقد كان شديد الحساسية في هذه المسألة: ونحن اليوم نعيش انفلات المذهبية البغيضة فتصوروا كيف كان الوضع منذ 50 عاماً. والأمير هو صاحب المقال الشهير و»لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً». والعنوان هو آية من القرآن الكريم تدل بقوة على مقصده: أن الإسلام رسا على كل الناس لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود؛ وأن الله هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة، وأنه لو شاء الله لبعث الناس أمة واحدة… ولكنه شاء لنا الاختلاف والتعددد… الذي هو رحمة للبشر… وإنه ليس من حق ولا من مسؤولية أحد أن يصنّف الناس، بأن هذا مسلم وهذا غير مسلم. نعم منذ ذلك الزمن المبكر تصدى الأمير للأصولية السلفية التي أضعفت الإسلام والتي أصبحت تفتك بنا في هذا الأيام… ولقد حمل أرسلان في إسلامه نكهة الموحدين وخصوصيتهم وتميزهم في داخل الإسلام، وهذه السمة الثقافية الخاصة بكل مذهب هي ما يعطي قوة وحيوية الإسلام. كما كان الأمير يدافع عن التصوف وعن التشيع بنفس القوة ونفس المنطق في وجه السلفيين المتعصبين.
هناك شيء مجهول عنه فهو صاحب مقدمة شهيرة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء وهذا من أهم الكتب عند الشيعة… وهو صاحب الدفاع الأهم والأشهر عن نسبة نهج البلاغة الى الإمام علي بن أبي طالب وليس الى جامع النهج… لأنه حصل نقاش في زمنه عندما كتب أحمد أمين كتبه عن الإسلام وفيها جهل وتعصب وتجريح بالشيعة، تصدى له كبار علماء الشيعة في النجف.. وهو إدعى أن النهج ليس للإمام علي عليه السلام.. فكان الذي حسم السجال هو الأمير شكيب لأنه في مجال الأدب وفي مجال اللغة لا أحد يناقشه… والأمير أيضاً هو الذي حاور العلاّمة أحمد رضا في مجلة العرفان حول أصول شيعة لبنان وتسمية جبل عامل والمتاولة… الخ.
التسامح
ومن سماته الإسلامية أيضاً سمة التسامح والانفتاح وفهمه للتعدد والتنوع تحت سقف الوحدة. هذا التسامح وهذا الانفتاح الذي نحتاجه اليوم كقيمة أساسية في حياتنا نجده على أفضل ما يكون في حفظه للعهد وللدفاع عن الأصدقاء. فقد قامت عليه القيامة لأنه كان صديقاً لزعيم البهائيين في ذلك الزمن عباس أفندي. قامت عليه القيامة من المسلمين، سنّة وشيعة، حتى من الأصدقاء المقرّبين… فكان يقول لهم كيف لا تفصلون بين الدين أو المذهب من جهة وبين الإنسان وقيمته. كإنسان له إنسانيته وكرامته بأمر من الله (ولقد كرّمنا بني آدم). فشكيب هو صاحب موقف واتجاه في التعامل مع الإنسان كإنسان وأن الأصل في العلاقات بين الناس هي إنسانية الإنسان وليس الدين أو الطائفة أو المذهب أو العائلة.
وكما قلت سابقاً فقد تتلمذ على السيد الأفغاني والشيخ محمد عبده. تتلمذ تلمذة فعلية. ولا أظن أنه يوجد من استوعب عقل وفكر وممارسة هذين العلمَين أفضل منه. وقد جدد أيضاً في مفاهيمهما وفي صيغة فهمهما للنهضة الإسلامية وذلك لأنه عايش الحقبات المختلفة: حقبة الأفغاني وعبده، حين كانت الدعوة للجامعة الإسلامية أيام الدولة العثمانية وكان هو عثمانياً الى أقصى مدى. ويجب هنا أن نفهم هذا الموقف لأنه ليس فقط انطلاقاً من موقف إسلامي دفاعاً عن الأمة الإسلامية والوحدة الإسلامية والجامعة الإسلامية وإنما أيضاً انطلاقاً من موقف إنساني لأن الأصل عنده الحق والعدل. أي أن نبحث عن الحق والعدل وليس عن موازين القوى والأشخاص. وكان في ذلك يطبّق مبدأ الإمام علي: إعرف الحق تعرف أهله.. لأنه كان يجد أن الحملة على العثمانيين حملة ظالمة فهو وقف مع الحق والعدل في هذا الدفاع. وأيضاً انطلاقاً من موقف لبناني لأنه كان يعتقد أن حفظ خصوصية لبنان لم تكن ممكنة إلا في ظل الدولة العثمانية، في ظل دولة فدرالية منفتحة متسامحة مثل الدولة العثمانية في ذلك الزمن، وفي حفظ خصوصية الجبل. فهو كان يدعو الى هذه الخصوصية.
… والبلاشفة
إذن هو كان أولاً عثمانياً وكان إسلامياً وعضواً في الجامعة الإسلامية وذهب في دفاعه عن الإسلام الى حد البلشفة، وهذه صفحة مجهولة ومهمة جداً من حياته، علاقته بلينين والبلاشفة. فهو ذهب الى باكو في المؤتمر العالمي الذي نظمه لينين عند نشوء الاتحاد السوفياتي بغية استنهاض الشعوب الإسلامية للوقوف في وجه الأوروبيين الزاحفين على البلد الاشتراكي الجديد. ذهب الى باكو ونسج علاقة التحالف مع البلاشفة وما بينهم وبين أنور باشا. وهذه تجربة (أو لعلها مغامرة) فشلت لاحقاً. طبعاً هناك أعلام من المسلمين السوفيات أمثال سلطان علييف حاولوا أن ينسجوا إسلاماً سوفياتياً ولعل نموذج شكيب أرسلان ساعدهم وكان حافزاً لهم. وكان له سجالات ومجادلات ومراسلات مع السيدة كولونتاي المدافعة عن حقوق النساء وكانت حول المرأة في الإسلام وفي الشيوعية وحول القضايا التي كانت تهم الإنسان في ذلك الزمن، وهو كتب عن ذلك كتاباً ضاعت أصوله (في إحدى المطابع!!)….
المحطة العثمانية الإسلامية لم تمنعه من أن يجد التحالف مع البلاشفة في ذلك الزمن محوراً أساسياً لإنهاض المسلمين. وهو يقول إن سبب فشل تلك المحاولة كان مصطفى كمال أتاتورك وليس البلاشفة. يقول إن مصطفى كمال عندما عقد الاتفاقية مع الانكليز لبناء دولة تركية والتخلي عن الإسلام والمسلمين، أجهض كل تلك الحملة الإسلامية التي كان ممكنا أن تقوم في المنطقة بالتحالف مع البلاشفة لبناء اتحاد قوى إسلامية جديدة على أنقاض الدولة العثمانية. هذا كان حلمه وحلم صديقه أنور باشا: أن ينهض لدول إسلامية مستقلة بالتحالف مع البلاشفة الذين كانوا أيضاً يستنهضون الشعوب الإسلامية عندهم لمواجهة الغزو الأبيض في ذلك الزمن (…).
فلسطين
(…) أنتقل الى مسألة فلسطين وهي مسألة أساسية في فكر وممارسة الأمير. فهو كان أول من نبّه الى أهمية العمل التضامني الإسلامي من أجل فلسطين من دون السقوط في العداء مع اليهود واليهودية. وهنا نقطة مهمة. كان هناك يهود من أصدقائه في لبنان وفي كل البلدان الإسلامية والعربية، وهو كان يستنهضهم. وعندي وثائق في مجلة الفتح التي كان صاحبها صديقه محب الدين الخطيب ، في مجلة الفتح السلفية في أعوام 36 – 37 – 38 إعلانات مدفوعة من قبل اليهود لدعم فلسطين، تقول إنهم مع فلسطين وليسوا مع الصهيونية وإنهم أبناء هذه المنطقة ولم يكونوا صهاينة. هذا فقط لتقديم بعض الملاحظات حول كيفية اشتغاله في السياسة الإسلامية وإنه لم يكن يعمل لجاهٍ سياسي أو شخصي؛ وهو صديق السلفيين المصلحين وصديق السعوديين وتوسط بين السعودية واليمن عندما اندلعت الحرب بينهما كان هو صاحب الوساطة التي أنقذت الوضع في ذلك الزمن بين الإمام يحيى الشيعي الزيدي والملك عبد العزيز وأوقف القتال. كان يجهد نفسه ويجاهد لمنع أي اقتتال بين أي دولة إسلامية ودولة إسلامية أخرى. كانت هذه سمة أساسية أيضا في حياته.(…)