مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): من أخلاقيات القتال والحرب عند الشركس
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
من أخلاقيات القتال والحرب عند الشركس
يمنع منعا باتا إطلاق الأسهم (قديما) والنار فيما بعد في أرض المعركة على ظهر أي عدو هارب وفار يعدو للنجاة بروحه. ويصنف من يخالف ذلك ويطلق النار على الهارب من الخلف في قائمة الجبناء وضعاف النفوس وعديمي الرحمة الإنسانية والخلق الكريم. كما ينطبق ذلك المبدأ وبأسلوب آخرعلى الأسرى من الأعداء الذين كانوا يعاملون كأفراد عاديين في المجتمع الشركسي، حيث يكلفون بأعمال ريفية عند آسريهم. ويحظر على أي كان أساءة معاملتهم…..تشهد على ذلك أقوال وكتابات الجنود البولونيون الذين كان الروس يزجون بهم في جبهات القفقاس مكرهين، خاصة وأن العداء الروسي- البولوني وغلبة الروس على بولونيا عبر التاريخ معروف، مما يفسر هرب البولونيين من الجيش الروسي واللجوء لدى الشركس كأسرى يسكنهم الشركس خلف خطوط المواجهة وفي الجبال. كما يفسر تعاطف البولونيين مع الشركس، بل ومشاركتهم إياهم في حربهم ضد الغزو والاحتلال الروسي.
كانت هذه القاعدة معروفة ومعمولاً بها في الأصل بين خصمين شركسيين، لكن آثارها بقيت واستمر العمل بها في أغلب حروب الشركس مع الغزاة والأعداء من غير الشركس. ولكن مع تعديلات، أهمها عدم إطلاق النار على المنهزم بنية القتل، بل محاولة إصابته في رجله وأسره. ولقد حمل المهجرون الشراكسة في بدايات استيطانهم بلدان الشتات هذه القاعدة معهم واندثرت مع الزمن……. ولم يعد أحد اليوم يعرف عنها شيئا أو سمع بها… لكنني وأثناء كتابتي عن تاريخ قريتي مرج السلطان أدركت من عاش أحداثا دارت حول هذه العادة، وسجلت معلوماتي عن من شارك في الدفاع عن قرية مرج السلطان حين تعرضت لهجوم مئات من جموع وخليط الغزاة الذين اندسوا في الثورة السورية لأجل السلب والنهب في فجر يوم الثلاثاء في 25 أيار 1926.
فمن التعليمات الصارمة التي كان على المدافعين الالتزام بها آانذاك :
أ- عدم إطلاق أية طلقة إن لم تكن إصابة الهدف مؤكدة. لتوفير الذخيرة.
ب- تشديد الأوامر بعدم إطلاق النار على أي فار أو منهزم. وذلك حسب تعليمات وجهاء القرية وعلى رأسهم التحماتة (ألْقَس تحقواخو) الذي كان شديد التمسك بأخلاقيات القاعدة الشركسية.
ج- عدم قتل أي جريح أو أسير.
وحول مهاجمة القرية يذكر محمد شريف آل رشي من زعماء الثوار الذين هاجموا مرج السلطان، بصراحة تامة أنه قال في اجتماع التحضير للهجوم في قرية الحتيتة :
” لا يجوز أن نهاجم قرى إسلامية لم يسبق لها أن تعاونت مع الفرنسيين. ولا يصح ولا يجوز مهاجمتها لمجرد احتمال أن تفكر في التعاون في المستقبل مع الفرنسيين، بل علينا أن نكسب الشركس إلى جانبنا بأساليب أخرى تزيد في قوة الجبهة الوطنية ضد الكفار من المستعمرين الفرنسيين، خاصة وأن هؤلاء الشركس متعصبون للدين الإسلامي، وأنهم هاجروا من القفقاس في سبيل الدين، كما أن من الظلم أن نعاقب جماعة لخطأ ارتكبه فرد أو بعض أفراد، إذ لاتزر وازرة وزر أخرى “. ولقد ذكر لي أن المندسين سفهوا رأيه ورفضوه.
أما أدهم آل الجندي فيكتب في سفره الكبير الموسوم بـ: ” تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي ” المطبوع في دمشق عام 1960، تحت عنوان ( معركة مرج السلطان) في الصفحات 384-385-386 فيذكر الأمر بقوله:
” والحقيقة التي لا مراء فيها أن نوايا المجاهدين حيال هذه القرية كانت بعيدة عن الإخلاص والغايات السامية، فارتكب القادة أخطاء فادحة بمها جمتهم القرية، وثبت أن العاطفة قد تغلبت على العقل، فكان لهذه المعركة التي ارتد المجاهدون عنها بخسائر كبيرة رد فعل وأثر سئ في المجتمع، وأظهرت لهم مجرى الحوادث أنهم ارتكبوا خطيئة كانت عبرة وعظة ليتفادوا الوقوع بأمثالها في معارك الغوطة آنئذ “.أهـ.
ومرة أخرى أستشهِد بأحد أركان الثورة السورية وهو (محمد سعيد العاص) أحد زعماء الثورة السورية في كتابه ( صفحة من الأيام الحمراء)، الذي يذكر فيه قرية مرج السلطان في أكثر من موقع. ففي الصفحة 128 يتحدث عن أحداث بداية شهر كانون الأول 1925 (أي قبل العدوان بخمسة شهور) إذ يكتب في ص. 129 أن الغاية من مهاجمة مرج السلطان كانت من أجل نهب القرية.
أما أحمد وصفي زكريا فيذكر في سفره (الريف السوري.محافظة دمشق. الجزء الأول. أقضية النبك والقطيفة ودومة. دمشق 1955) في الصفحات 371-373 سكان القرية بقوله:
“وقد نكبوا إبان الثورة السورية بهجوم عام قام به جموع من الذين اندسوا في الثورة لأجل السلب والنهب ظنوا أنهم ينالون من قلة عددهم. فما كان من أهل هذه القرية الصغيرة إلا أن نصبوا المتاريس في منافذ قريتهم واستبسلوا رجالاً ونساءً في الدفاع حتى ردوا المهاجمين”.
وفي يوم الهجوم تركت مجموعة من المهاجمين القتال وانصرفت إلى النهب (كما حدث في معركة بواتييه – بلاط الشهداء- سنة 10-10-732 تماماً) فأخرجت قطيعاً من الأبقار والجواميس من حظائر جنوب شرقي القرية وقادوها باتجاه الشرق. لكن شباب الشركس لحقوا بهم وقتلوا سبعة منهم وهرب الباقون وعددهم أربعة، فلم يطلقوا عليهم النار التزاما بأوامر التحماتات واستردوا القطيع، لكن أحد الشباب (م. س. تلئـ.) خالف التعليمات مرتين، بقيامه أولاً بإطلاقه النار وإصابة أحد الهاربين (س. ح.)، في ساقه، وثانياً حين قبضواً على الهارب وحاول (م. س. تلئـ) قتله لحنقه عليه لخيانته وغدره، لأن هذا الجريح كان من أعز أصدقاء شباب مرج سلطان. ولقد ذكر لي أكثر من واحد، أن (م. س. تلـئـ) بعد إطلاق النار على الهارب كاد أن يجهز عليه. فمُنع وعُنف وكُلف بحمل الجريح ونقله إلى داخل القرية، حيث عولج بالمراهم والأدوية الشعبية الشركسية حتى شفي من جراحه وتم إيصاله إلى أهله. وكان من نتائج ماحدث أن استدعي (م. س. تلئـ.) بعد المعركة إلى ما يعرف بمجلس (التحماتات) أو محكمة الكبار والحكماء، وتم تقريعه وتغريمه على ما بدر منه.
وتأخر تدمير القرية وتعفيشها، ونهب حتى بلاط مساكنها 81 سنة، حتى 2017-2018
عادل عبدالسلام (لاش)
دمشق: 24 – 1 – 2019