مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): مؤامرة 1956 والمحاكمات.. (كوة على التاريخ السوري المعاصر)
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
قد يعجب القارئ من الكتابة عن هذا الموضوع في مذكراتي، التي تطغى عليها الموضوعات العلمية والاجتماعية والأحداث غير السياسية، وتركز على الأحداث المتعلقة بالشركس خاصة، والبعيدة الصلة عن الأمورالإيديولوجية-السياسية. وخلاصة الأمر أنني كدت أن أُتهم وبمحض الصدفة بضلوعي في واحدة من المؤامرات الانقلابية السورية…..التي لا ناقة لي فيها ولاجمل.
ففي فترة الصراع بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي- الشيوعي وأذنابهما من الدول العربية، وسعي عبد الناصر لبسط نفوذ مصر وزعامته الفردية على الشرق الأوسط عن طريق توحيد العرب، بصراعه مع العراق وحلف بغداد و ضم سورية إلى صفه، كان الصراع بين الأحزاب السورية والعسكر، وبين العسكر أنفسهم على السلطة والحكم والمال على أشده، ذلك الصراع الذي أفرزته هزيمة العرب النكراء وضياع فلسطين سنة 1948، التي لحقت بلواء اسكندرونة المقتطع من سورية ، وما جرها للوقوع في حمأة مسلسل الانقلابات العسكرية، وما أعقبها من تحجيم قدرات سورية وتنافس القوتين العالميتين للسيطرة عليها في إطار ما يعرف في الجيوبوليتيك بـ (الأرض الهامشيةRimland ( أو(القوس الهامشية) التي تشكل الطوق الجيوبوليتيكي الفاصل بين القوتين العالميتين، ( القوة البرية) التي تمثلها روسيا والدول المتحالفة معها في آسيا الشمالية وشرقي أوروبا، و(القوة البحرية) التي تمثلها الولايات المتحدة والدول الغربية المتحالفة معها. فالموقع الجغرافي لسورية في هذا الطوق مهم جداً كان وما زال وسيبقى مطمع القوى الكبرى وهدف سيطرتهم على الشرق الأوسط، مع إبقائها أضعف من أن تشكل مصدر إزعاج أوقلق لهم. (أحداث سورية منذ سنة 2011 برهان ساطع على هذه الحقيقة، فالجميع شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً، إسلاماً وغير مسلمين، أشرافاً وأوباشاً، سوريين وأغراباً …. اتفقوا كلهم على تدمير سورية وإبادة شعبها وتحطيم كيانها، وتخريب اقتصادها، وتحويلها إلى فريسة تنهش وحوش الأرض لحمها وروحها، والمستفيد الأول والأخير هو الكيان الأسرائيلي).
بعد هذه المقدمة المؤلمة أذكر أنه في أحد أيام أوئل خريف عام 1956 وكان الطقس دافئاً يودع الصيف، التقيت في مقهى الروضة المقابل للبرلمان بدمشق، بصديق شركسي عزيز علي، هو الملازم الأول في الجيش السوري بيبرس عارف أنجوق (أبو داريال). الذي عرض علي مرافقته السفر إلى بيروت بعد ساعة. ولم يكن الأمر غريباً، إذ كثيراً ما كنا هو وغيره من أصدقاء آخرين نتمتع بقضاء يوم أو أكثر في بيروت وغيرها في لبنان. فأجبته بأنني مفلس ولاأملك سوى خمس ليرات سورية. فأجاب أن سفرتي معه هي على حسابه.
عندها أخبرت أهلي وسافرنا إلى بيروت، ولما وصلناها بسيارة تعمل على الخط (دمشق- بيروت)، استأجرنا سيارة، طلب بيبرس من سائقها الذهاب إلى منطقة النهر في بيروت. ولما طلب منه العنوان قال له بيبرس “سق في كل حارات المنطقة وشوارعها حتى نشاهد بناءاً طابقياً رمادي اللون، لأنني لا أذكر العنوان ولك أجرتك وحبة مسك فوقها”، وبعد قرابة نصف ساعة شاهدنا البناء وغادرنا السيارة. ودخلنا محلاً لتقديم المرطبات، ورجاني بيبرس أن أنتظره، لأنه سيقابل صديقاً ولن يغيب أكثر من نصف ساعة. وبالفعل عاد في الموعد واستأجرنا سيارة أخرى أخذتنا بدلالة بيبرس إلى مبنى قريب من الجامعة الأمريكية. وفي اليوم التالي عدنا إلى دمشق. ولقد لفت انتباهي أن بيبرس كان ينفق، على غير عادته، بسخاء واضح، مما دعاني لللاستفسار منه، فأخبرني أنه استلم حصته من تركة قريب له في تركيا.
كانت الصحف والإذاعة في هذه الفترة حافلة بأخبار مؤامرة عراقية على سورية ومحاولة انقلاب على الحكم فيها، ثم نشرت لائحة اتهام بأسماء المتآمرين والمعتقلين في شهر كانون الأول من عام 1956 وعلى رأسهم حاكم سورية الأسبق أديب الشيشكلي ومحمد صفا وغسان جديد ومنير العجلاني وغيرهم .. ومن بينهم صديقي بيبرس عارف أنجوق. وعلى الرغم من المفاجأة، لم يكن ذلك غريباً علي لأن الانقلابات السورية قامت على أكتاف العسكر والضباط، وأصبح الأمر بدعة سار على سننها كل من جاء بعد حسني الزعيم إلى يومنا هذا.
بدأت محاكمة المتهمين في أواخر كانون الأول من عام 1957 على ما أذكر، في المدرج الكبير لجامعة دمشق، وكان رئيس المحكمة الضابط عفيف البزرة المعروف بميوله الشيوعية، بل كان الكثيرون يصمونه بالشيوعية. ولما كان بيبرس بين المتهمين كنت أحد المداومين على جلسات المحاكمة المفتوحة، وكان الكلام معه محظوراً وزيارته في السجن ممنوعة. فكنت وأهله جاهلين بالتهمة أو التهم الموجهة إليه. إلى أن جاء موعد محاكمته حين تبين أن تهمته كانت قيامه بالاشتراك بالانقلاب وذلك مقابل 70.000 ل.س. أما مهمته فلم يعرف بها هو نفسه إلا بعد أمد من استلامه المبلغ المذكور، وكانت تتلخص بقيامه بتحريك بعض وحدات الجيش السوري من الجنوب باتجاه دمشق في الوقت المحدد له. وبسؤاله في المحكمة اعترف بيبرس باشتراكه في العملية الانقلابية واستلامه المبلغ من حسن الأطرش في بيروت، الذي أعلمه بأنه سيتلقى تفاصيل مهمته في الوقت المناسب وليس الآن، حفاظاً على السرية. ثم قال:
” لما تلقيت التعليمات بعد قرابة الشهر، ووجدت أنها تتطلب مني تحركي مع الوحدات العاملة بإمرتي في جنوبي سورية، لضرب قوات عسكرية مضادة للانقلابيين، عندها وجدت نفسي في موقع لا يشرفني كضابط سوري وشركسي أن أغدر فيه بإخوتي في السلاح وأخون بلدي، فاتصلت برؤوس المؤامرة في بيروت وطلبت مقابلتهم بعد ما قررت الانسحاب من المؤامرة. فذهبت إلى بيروت وقابلتهم، في منطقة النهر وأعلمتهم بموقفي وانسحابي من العملية، وأعدت النقود، بعد حسم نفقات سفري، إلى حسن الأطرش في منطقة الجامعة الأمريكية وأمضيت ليلة في بيروت عدت بعدها إلى دمشق حتى تاريخ اعتقالي”.
ثم طلب منه رئيس المحكمة، أن يتحدث عن تفاصيل سفرته إلى بيروت. فسردها بدقة وكانت نفسها التي كنت فيها معه. وهنا ازدادت ضربات قلبي بسرعة، لخوفي من السؤال التالي الذي طرحه رئيس المحكمة، وكان كما خشيت:
” هل كنت يا بيبرس وحدك، أم كان معك أحد ؟، وهل هناك من يشهد على صحة أقوالك؟ “.
فكان جواب بيبرس ” نعم سيدي كنت وحدي، وليس من يشهد على صدقي سواي وأقوال الذين اجتمعت بهم”.
أيها القارئ الكريم، لايمكن تصور رد الفعل المريح والمطمئن لعدم ذكره اسمي وهو يراني وأنا في القاعة وفي متناول يد الشرطة العسكرية، مع أن شهادتي كانت ستنقذه، لكنها ستثير شكوكاً واستجوابات كانت ستبقى عالقة بشخصي و(فيشتي) لدى الدوائر الأمنية تسئ إلى اسمي ومستقبلي. ناهيك عن اعتقالي برهن التحقيق. إن لم تلفق لي تهمة ما. ومما زاد في سعادتي أن تمت تبرئة بيبرس مع عدم المسؤولية عن كل ما نسب إليه وأخلي سبيله فوراً.
لقد كان رحمه الله صديقاً حميماً ورجلاً مخلصاً وكبيراً يمثل الشركسي الأصيل والوفي الذي لا يخون الصديق أو يستغله ويغدر به لصالحه مما يذكرني بخلو اللغة الشركسية من كلمة (خائن). التي لن تجدها في قواميس اللغة، إلا في اللهجة ااشركسية الغربية التي تعرفها تحت مسمى (قومال Къумал)، التي تمت استعارها لوصم الخائن، إذ هي في الأصل اللغوي شتيمة مقذعة تعني ( ابن الخنزير Къо-м-и-Ал) و لا تعني الخائن. وهناك من يرى أنها كلمة دخيلة من اللغات التترية – الطورانية. وأذكر في هذا السياق أن لغويا صينياً في قسم اللغة العربية في جامعة بيجين (بكين) في الصين ذكر في سياق حديثه عن الشركس قوله عن لغتهم: ” ولايوجد في لغتهم كلمة – خائن – ويترفعون عن ذكر اسم من خانهم…. ولكنهم يطاردونه لآخر الدنيا حتى يقتلوه..”. (ر. موقع: صور قوقازية في النت).
هاجرأبو داريال فيما بعد إلى تركيا حيث تزوج فيها وتوفي بين أقربائه، رحمه الله فيها.
عادل عبد السلام (لاش)
دمشق: 25 – 1- 2019