عام
د. عادل عبد السلام (لاش) – الشيخ الأزهري محمد بيرم
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
من رجالات مرج السلطان
الشيخ الأزهري محمد ( أفندي ) -بيرم- ابراهيم صـﮔاص، الشهير بالساعاتي
عالم جليل من علماء مرج السلطان، عرف اختصاراً بـ : محمد أفندي، وهو ابن الحاج إبر اهيم (بيرم) صـﮕاص Шъэг(дж)aшъ. من مواليد سنة 1859(أو 1854)، كان له أخ أصغر منه بسنة ( مواليد 1858؟)، اسمه إبراهيم . كلاهما من قبيلة الشابسغ ومن مواليد القفقاس، في منطقة شابسغ البحر الأسود ، ومنها هُجرت اسرته إلى ميناء طرابزون التركي، حيث انتشر الشركس في مناطق كثيرة من شمال شرقي تركية الحالية. وحيث غادرت أفواج منهم بعدها تلك الديار إلى أراض أخرى في الامبراطورية العثمانية. فوصلت أسرة المترجم له بعد نحو 20 سنة، ( أي في عام 1878 ) إلى سورية ( شام شريف مقدس )، واستقرت مع أسر شركسية أخرى في موقع قرية مرج السلطان. وكان عمره خمس سنوات عام تهجير الشركس من قبل الروس 1864..
وعلى الرغم من ضبابية المعلومات الخاصة بهذه المرحلة من حياة محمد صكاص، وعجزي عن الوصول إلى حقائق موثوقة، فإن جميع الروايات تشير إلى أنه تعلم اللغة التركية على يد محمد رفعت لاش، المعلم الأول في مرج السلطان ، كما تلقى بعض المعارف الدينية، والفلسفية، من دون أن نتوصل إلى معرفة شيوخه، وأماكن أخذه العلم عنهم في بلاد الشام. وبعد ما استقر بأسرته المقام في مرج السلطان، كان يتردد على المحافل الدينية وشيوخ المعرفة والعلم في دمشق، حيث اتجهت اهتماماته الدينية اتجاهاً فلسفيا متأثراً بآثار الغزالي وغيره من أعلام الفلسفة الإسلامية. ولما كانت قدراته واهتماماته، وكذلك مهاراتة اليدوية والفكرية غير محدودة، قام أخوه الأصغر، إبراهيم بن إبراهيم صكاص بإرساله إلى مصر لتلقي العلوم الدينية في جامع الأزهر، حيث بقي مدة 3-4 سنوات. عاد بعدها إلى مرج السلطان وهوفي سن الثلاثين.
على الرغم من وجود عالم جليل آخر في مرج السلطان هو محمد رفعت لاش ( لاص )، الذي كان منصرفأ إلى التعليم والتدريس ونشر المعرفة والثقافة في القرية والمنطقة عن طريق مدرسة القرية، التي أسسها بنفسه، وكذلك وجود إمام للجامع هو الحاج سعيد شاكوج، الذي كان خطيباً ومؤذناً للقرية في الوقت نفسه، فإن المعارف التي اكتسبها محمد من دراسته في الأزهر أكبسته شهرة وتقديرأ واحتراماً كبيرين في القرية وفي المنطقة، بل وفي أوساط علماء دمشق، حيث عرف بـ ( شيخ مرج السلطان )، وبـ (مفتي شركس مرج السلطان في الوثائق الفرنسية الرسمية ).
وكان مصدر رزقه العمل في الزراعة، ومنها جاءت علاقته بآل ياورمن بطن حانتو من قبيلة الشابسغ، خاصة أيوب ياور. ففي إحدى السنوات الخيرة كان محصول القمح جيداً، والقش الناتج عنه ( التبن ) وفيراً، وكان آل ياور يعيشون في دمشق بحكم عمل أيوب، رجاه محمد أفندي السماح له بحفظ التبن الفائض في تبان آل ياور قبالة المدرسة القديمة (المؤسسة الاستهلاكية اليوم) ومنزل آل ياور حالياُ. فوافق أيوب على الطلب. ومنذئذ والعلاقة بينهما تتمتن وتتوطد، وكثرت زيارات محمد أفندي لدمشق، وازدادت معارفه بشيوخها ورجال العلم فيها. وعرفوه عالماً جليلاً متعدد المواهب والمهارات.
تحول منزله في مرج السلطان مقصداً لعلماء الدين والمواقيت والفلك والفلسفة، وبصورة خاصة في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، من أشهرهم المرحوم الشيخ محمد صالح الفرفور، الذي يذكر عمر بن الشيخ موفق النشوقاتي ذلك في فصل الشيوخ الذين أخذ الفرفور العلوم عنهم فيقول:
” ومنهم العلامة الفلكي مفتي الشراكسة في مرج السلطان- شرقي دمشق- الشيخ محمد الساعاتي، فقد لازمه مدة طويلة أخذ عنه خلالها الفقه والميقات، وكان يذهب إليه كل أسبوع مشياً على الأقدام مدة أربع ساعات، فيقرأ عنده بقية نهاره وطرفاً من ليله، ويبيت عنده ويرجع في اليوم الثاني ماشياً أيضاً.
وقرأ عليه مرة رسالة في الميقات في جلسة واحدة متواصلة استمرت يوماً وليلة، فسُر منه الشيخ ووصفه بأنه لص علم يريد أن يأخذ العلم كله في ليلة ” اﻫ. النشوقاتي ص.51 دمشق 2000. ويذكر بسام حاج حسن شهادة ابن الشيخ صالح بقوله:
“حضرت لقاءً أقيم في جامع الشيخ محمد بن الحاج بيرم صكاص (الشهير بالساعاتي) في مساكن مرج السلطان، في إحدى أمسيات شهر رمضان وبعد صلاة التراويح. كان ضيف اللقاء الشيخ حسام الدين الفرفور، تضمن اللقاء أدعية دينية وكلمة للشيخ الفرفور تحدث فيها عن ذكرياته حول قرية مرج السلطان والشيخ محمد الساعاتي، ذكر فيها أن والده الشيخ محمد صالح الفرفور كان يأتي من دمشق إلى مرج السلطان سيرا على الأقدام ويقيم عنده عدة أيام يأخذ فيها العلم عنه في الفلك والميقات ثم يعود سيرا على الأقدام إلى دمشق. وأنه يحب زيارة مرج السلطان وقراءة الفاتحة على روح شيخ والده”.
ويبدو أن سمعته وشهرته أخذت بالازدياد في أيام الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، للأدوار المهمة التي قام بها للوساطة والتقريب بين الثوار وشراكسة مرج السلطان، من جهة، ولدفع العدوان الفرنسي عن السوريين من جهة ثانية. وقد وجد في مساعيه هذه دعماً من الوطنيين المنطقيين وعقلاء رجالات الثورة، البعيدين عن التشنجات العاطفية والانفعالية والجشع، وكذلك من قبل الشركس، ومن السلطات الفرنسية، التي حاولت التقرب منه عبثاً. وكانت نتيجة هذه المواقف ردود فعل عدائية من قبل الأطراف الجاهلة ، فكان أن حكمت عليه السلطات الفرنسية بالإعدام أكثر من مرة، كما أهدر الثوار دمه في أكثر من مناسبة. وأذكر هنا حادثتين تعرض فيهما محمد أفندي للموت والإعدام مرة من قبل الثوار ، ومرة من قبل الفرنسيين :
1- كانت محاصرة قرية مرج السلطان وقطع الطرقات المؤدية إليها، ومنع وصول المواد الغذائية والحاجيات الضرورية إليها من دمشق أو دوما، أمراً معروفا قبل الثورة السورية وفي أثنائها، بل وبعدها. حيث كانت عصابات إجرامية مختلفة هدفها السلب والنهب تقوم بتلك الأعمال ، مسيئة إلى الثوار المناضلين. ومع ذلك كان شراكسة مرج السلطان يغامرون في جلب الحاجيات الضرورية إلى القرية. وكان عليهم في معظم الحالات أن يسلكوا طريق الغوطة الشرقية. وفي إحدى هذه المرات تم القبض على الشيخ محمد هو وأيوب ياور في حمورية وسجنهما في تبان إحدى القرى والتحضير لإعدامهما في ساحة القرية.
وتكرر إخراجهما إلى الساحة لإعدامهما، وإعادتهما إلى سجنهما ثلاث مرات، نتيجة غارات الفرنسيين على البلدة، وانصراف الثوار للدفاع ومواجهة الغزاة. وفي المرة الثالثة تمكنا من الهرب بانتزاع قضيب حديدي من نافذة التبان العليا وخروجهما منها. وبمساعدة بعض أبناء البلدة، والعارفين للشيخ محمد أفندي تم إخراجهما من المنطقة، وإيصالهما إلى دوما، ومنها إلى مرج السلطان.
2- شوهد الشيخ محمد صكاص وكان برفقة أيوب ياور أيضاً، في دمشق في منطقة جنوب الجامع الأموي، حيث تعرف عليه صاحب محل للذهب مسيحي في سوق الصاغة، الذي كان يقع جنوبي الجامع. و كان هذا الصائغ يعمل جاسوساً للفرنسيين. فقام بإبلاغ السلطات الفرنسية، التي طاردت محمد وأيوب ولاحقتهما، فالتجآ للجامع، حيث عرفهم أحد سدنته الذي كان صديقاً لمحمد أفندي، فقام بلف كل واحد منهما في سجادة، وأسند السجادتين إلى الجدار، ووقف للصلاة. فلم يعثر الفرنسيون وعملاؤهم عليهما. ونجا الاثنان من موت محــــــتم.( مما يؤسف له أن رواة الحوادث لم يكونوا قادرين على تذكر الأسماء, وتواريخ الوقائع في كثير من الحالات بشكل يدعو للثقة، للبعد الزمني بين الواقعة وتاريخ اخذي المعلومات من رواتها الذين اتفقوا على الرواية ، وتعارضت أقوال بعضهم على تحديد تاريخها وأسماء أشخاصها، بل وأحياناً تحديد مكانها).
كان محمد صكاص الساعاتي يتقن ثلاث لغات هي لغته الأم؛ الشركسية بلهجة الشابسغ، واللغة العربية واللغة التركية وكتابتها بالحرف العثماني، كما كان يلم ببعض أطراف اللغة الفرنسية، التي بدأ بتعلمها في زمن الانتداب الفرنسي لسورية. ومن المعروف أنه هو الذي وضع أصول أطلس طربين، المنسوب إلى حمدي طربين الذي كان معلماً ابتدائياً في مرج السلطان في عامي 1938-1939، وكان يتردد على محمد أفندي- بشهادة أيوب ياور حانتو الذي كان يصف هو وغيره حمدي طربين بسوء ،- وقد أعاد رواية هذه الواقعة عماد ياور ابن أيوب في تموز 2006 في مرج السلطان بحضور محمد محي الدين عثمان جرميت، المشهور بـ : ياشار جرمت).
كذلك كان يتمتع بمهارات كثيرة وصناعات فائقة الدقة ومتقناً عجيباً لكل مايقوم به.. و لم يتزوج إلا مرة واحدة من فتاة من بنات عشيرته من بلدة كفر كما في فلسطين، توفيت بعد سنتين. وكان قبل ذلك وبعده يصنع حاجياته كلها تقريباً بنفسه. وكانت نسوة البلد تحسدنه على خياطته ألبسته وغيرها، وكان يصنع أدواته المنزلية والزراعية بنفسة، منها أنه قام بصنع آلة لتذرية الحبوب لم يستعمل في صنعها وتركيبها مسامير حديدية، بل مسامير خشبية صنعها خصيصاً لها. وكان يذري المحاصيل بها في فناء داره. لكن لقبه بالساعاتي جاء من خبرته في تصليح الساعات وبشكل خاص من صنعه ساعة مازالت (؟؟) تزين أحد جدران المسجد الأقصى في فلسطين، وساعة أخرى على واجهة أحد الدور في حي ساروجة (سوق ساروجة) بدمشق.
يذكره أدهم آل الجندي في سفره عن الثورات السورية، منوهاً بجهوده التوفيقية وحقن الدماء بقوله “حضر إمام القرية يركب حماراً أبيض، وتحدث إلى المجاهدين وأبلغهم أن ما اتصل بهم عن موقف أهالي القرية السلبي حيال المجاهدين لا يمت إلى الحقيقة بصلة، ورجاهم أن لا يتعرضوا لهذه القرية بسوء، لأنهم أقلية يعيشون في منطقة الغوطة”.
توفي الشيخ محمد أفندي الساعاتي رحمه الله، في قريته مرج السلطان سنة 1946 ودفن في مقبرة (بجش أواشحه) الحالية (تلة الواوية).