منذ سنتين، كنت في زيارة لمنزل استاذي ومعلمي عبد الله بك الخاني، الأمين العام الأسبق للقصر الجمهوري، الذي اشتهر بين أصحابه ومريديه أنه لم يعر كتاب لأحد في حياته.فتح أبواب مكتبته وقال: “الكتب أمامك، يمكنك ان تاخد منها ما تشاء. لقد كبرت بالسن وعيناي لم تعد تساعدني على القراءة. أفضل أن تذهب هذه الكتب لمن يعرف قيمتها ويحفظها، وان توضع في خدمة الباحثين والطلاب.”
كثيراً ما أنظر إلى مكتبتي وأتساءل عن مصيرها بعد رحيلي، ففيها معظم ما نشر عن تاريخ دمشق في القرنين الماضيين، باللغتين العربية والإنكليزية. احبها كثيراً، احب شكلها ومضمونها ورائحتها الفريدة، الممزوجة بين رائحة الورق القديم والخشب العتيق.
أغلب الظن أن ابنتي الصغيرة لن تهتم بكل ارثي الورقي، فأكاد أجزم أن العهد الفيصلي لن يكون من اهتماماتها، ولن تطربها مؤلفات قتيبة الشهابي ولن تعنيها مذكرات فخري البارودي بنسختها الأولى الموقعة بخط يده عام 1951.
في أفضل الحالات، ستحافظ على هذه المكتبة قليلاً بعد غيابي، لتتحول إلى ديكور جميل يزين الجدران، وتتخلى عنها تدريجياً مع مرور الوقت، نظراً لحجمها الكبير وعدم فائدتها بالنسبة لها. عندما تكبر “صفية” سيكون الكتاب الورقي قد انقرض كلياً، وستكون كافة قراءاتها الكترونية، على “الآي باد” أو ما سيظهر لاحقاً من اختراعات.
كل أصحاب المكتبات الخاصة في العالم يعانون من نفس الهاجس. البعض يتبرع بمكتبته وهو على قيد الحياة، ويوصي أين يتوجب أن تذهب بعد رحيلهم. ولكن كثيرون لم يفعلوا ذلك، وتم تفريق كتبهم بعد وفاتهم، إما على باعة الأرصفة أو على سلل المهملات.
من يشكك بهذا الكلام فما عليه إلا زيارة سوق الكتب القديمة تحت جسر الرئيس، ليجد بقايا مكتبات أشخاص أحبوا الكتاب وقضوا عمراً في مجلسه، ليتم بيع مكتباتهم بعد رحيلهم بأبخس الأسعار، أحياناً بالكيلو، مثل البطاطا.
أحياناً نجد في طيات هذه الكتب صورة “بولارويد” قديمة، كانت يوماً جزء من ذكريات أصحابها، وضعت من قبلهم لمعرفة أي توقفوا عن القراءة، قبل عقود. وعلى الصفحات الداخلية هوامش كتبت بخط اليد، أو اسطر بقلم رصاص، وضعت تحت جمل أعجبتهم في حينها ولم يعد لها أي معنى اليوم.
بعض الورثة يبيعون عن جهل، وآخرين عن حاجة مادية. المحزن أن هذا السوق ملاصق لسوق “البالة” في دمشق، وبإمكان المتسوق أن يشتري كتاب ثمين، أو “بنطلون جينز” بنفس السعر تماماً، ومن نفس المكان.
بعض المكتبات السورية الخاصة وجدت مكاناً لنفسها داخل المكتبات الجامعية، مثل مكتبة الدكتور عزيز شكري، التي باتت اليوم موزعة بين جامعة القلمون ومعهد الفتح، وجامعة دمشق، ومكتبة سعد الله ونوس التي أهديت إلى الجامعة الأميركية في بيروت. وكذلك مكتبات كل من الدكتور شاكر الفحام والدكتور واثق شهيد، التي وضعتا في المكتبة الظاهرية، ومكتبة الدكتور فاخر عاقل، التي وضعت في مكتبة الأسد، ومعها مكتبة الصحفي نصوح بابيل، صاحب جريدة “الأيام.” أما حاكم دولة حلب، مرعي باشا الملاح، فقد اهدى مكتبته العامرة إلى دار المكتبات الوقفية الإسلامية في حلب.
كانت هذه المكتبات تشكل وعي وشخصية هؤلاء القامات، وكتب لها أن تعيش اطول من أصحابها. ذات يوم كنت مشاركاً بمعرض ادبي في لندن. في قاعة الكتب وضعت ساعة ضخمة على الحائط، تم اقافها عن قصد، وكأنهم يقولون لنا: يتوقف الزمان في حضرة الكتاب.
لقد أمضيت سنواتي الأخيرة في معاينة الكثير من المكتبات الخاصة في دمشق. بعضها محفوظ بشكل ممتاز، مثل مكتبة دولة حسن بك الحكيم ومكتبة السفير الدكتور نجيب الأرمنازي ومكتبة شاعر الشام خليل مردم بك. ولكنا لا نعرف مصير الكثير منها، مثل مكتبة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، المبعثرة بين دمشق والقاهرة، أو مكتبة الرئيس خالد العظم.
المأساة الحقيقية تكمن في مكتبة زعيم دمشق ونائبها المرحوم فخري البارودي، التي حرقت معظم محتوياتها مع حريق منزله الكائن في أرض كيوان عام 1963، ونهب القسم الأخر منا أمام اعينه. أما مكتبته الرديفة في دوما، حيث كان يمضي وقتاً طويلاً في سنواته الأخيرة، فقد بقيت موجودة حتى منتصف العام 2018، وضاعت بدورها مع معارك الغوطة الأخيرة. بعض أوراق البارودي نجت وجمعت من قبل مركز الوثائق التاريخية بدمشق، ولكن الثمين منها ضاع، بما فيه مخطوط موسوعة الموسيقى العربية الذي كان “فخري بك” يعمل عليه في سنواته الأخيرة.
المشهد ذاته تكرر في مصر، فقد قام مجدي نجيب، ابن الرئيس اللواء محمد نجيب، ببيع مكتبة أبيه، وقوامها 5000 كتاب، بقيمة 500 جنيه فقط، وهي اليوم متوفرة على بسطات الكتب في شوارع القاهرة، ومعها بقايا مكتبة كل من عباس محمود العقاد وطه حسين، التي نهبت مكتبته بعد وفاته عام 1973 ولم يبق منها اليوم إلا 7000 من أصل 30 الف كتاب. وحدها مكتبة أمير الشعراء أحمد شوقي سَلمت من الأذى، حيث أنها جمعت في متحف باسمه افتتح في عهد الرئيس أنور السادات عام 1977، وهي تحتوي على 335 كتاب و713 ورقة مكتوبة بخط يد الأمير نفسه.
ذات يوم سألت الملك أحمد فؤاد الثاني، نجل الملك فاروق، ما حل بمكتبة أبيه وأجداده، وخصيصاً مجموعة الطوابع النفيسة التي كان يجمعها “ملك مصر والسودان” قبل خلعه عن العرش عام 1952. أجاب فؤاد، بالحرف: “مكتبة أي أفندم؟ هما خلو لنا حاجة؟”
لا يوجد دراسة دقيقة لعدد المكتبات المفقودة في دمشق، بالرغم من أن الكثيرين حاولوا إحصائها وجمعها. مع ذلك بقيت مبادراتهم فردية، غير مدعومة لا من الدولة السورية أو من جامعة دمشق. وحده مجمع اللغة العربية أهتم كثيراً بهذا الأمر، والفضل يعود للجهود الجبارة التي بذلها رئيسه العلامة الدكتور مروان محاسني. ولكننا بحاجة إلى 100 مروان محاسني، أو ربما ألف، لملئ الفراغ في هذا الموضوع الهام جداً لو أدرك الناس وأدركت الدولة أهميته.
مثلي كثر، حريصون على مصير مكتباتهم، ولا يريدون لها أن تتبعثر بعد غيابهم، أو ينتهي بها المطاف على أرصفة دمشق، جنباً إلى جنب مع القمصان القديمة أو الفساتين الملونة أو الأحذية.