أغفلت المسلسلات التي تناولت البيئة (الدمشقيَّة) موضوعاً مُهمَّاً هو وجود (البغاء) و(بنات الهوى) في ذلك المجتمع.. وحرصت على إبرازه بمظهر المتديِّن والمتعصِّب للمظاهر (الدينيَّة) وإبراز الدور الكبير الذي كان يُؤدِّيه (شيخُ الحارة) والانغلاق الذي تعيشه النساء..!!بينما شذَّ عن تلك القاعدة مسلسلُ (قناديل العشَّاق).
حقيقةً هذا الأمر لابُدَّ من تعاطيه بشفافيَّةٍ.. والعودة إلى أصوله التاريخيَّة.. وليس بالضرورة أن يكون الماضي جميلاً ومثاليَّاً كما يحلو لنا أن نتخيَّله.. أو أن يكون السَّلفُ صالحاً.
ضمن قراءتنا لـ (يوميَّات الشيخ أحمد البديري الحلَّاق) الموسومة بـ (حوادث دمشق اليوميَّة 1154 – 1175هـ / 1741 – 1762م) نلحظُ وجود تلك الفئة الاجتماعيَّة ودورها في المجتمع (الدمشقيِّ) كجزءٍ لا يتجزَّأ منه ومن أيِّ مجتمعٍ آخر في الشرق والغرب.. وفيما يلي بعض النصوص المقتبسة من الكتاب:
1). أقام دفتردار الشَّام الشهير (فتحي أفندي الفلاقنسيّ) عرساً لابنته في شهر ربيع الأوَّل سنة 1156هـ (أيَّار 1743م) استمرَّ سبعة أيَّامٍ، وخصَّ كلَّ يومٍ منها بجماعةٍ، واليومُ الأخيرُ كان مُخصَّصاً لـِ ((واليوم السابع إلى المغاني والمومسات، وهم بناتُ الخطا والهوى، وقد تكرَّم عليهم كرماً زائداً، ويعطيهم الذهب والفضَّة بلا حسابٍ)) الصفحة 39 من الكتاب.
2). قام أحدُ شيوخ (الشَّام) بإلقاءِ نفسه من مئذنة جامع (الدقَّاق) في حيِّ (الميدان) مُنتحراً في 14 رمضان 1156هـ (1 تشرين الثاني 1743م) بسبب انحدار الدور الأخلاقيِّ في المدينة: ((وفي رابع عشر شهر رمضان من هذا العام، ألقى رجلٌ نفسه من أعلا منارة جامع الدقَّاق إلى الأرض؛ فهلك سريعاً، بعد أن تكسَّر جسمه، واسمه الشيخ حسن بن الشيخ يوسف الرفاعيّ. فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا أنَّ أخا زوجته أتى بامرأةٍ إلى بيته، وكانت من الخطيئات. فنهاهُ عن ذلك، فنهرهُ وضربهُ، فذهب فأخبر أكابر الحارة، فلم يلتفتوا إليه لأنَّهم فوق ذلك بالانغماس، فذهب إلى جامع الدقَّاق، وصلَّى الصبح مع الإمام، وصلَّى على نفسه صلاة الموت، وصعد المنارة ونادى: يا أمَّة الإسلام، الموتُ أهونُ، ولا التعريصُ مع دولة هذه الأيَّام، ثمَّ ألقى نفسه إلى الأرض عفى الله عنه)) الصفحة 49 و50 من الكتاب.
3). حادثة سنة 1157هـ (1744م):
نلحظُ في تلك الحادثة ضعف مركز (القاضي)، واهتزاز هيبته، حتَّى أنَّه لم يستطع ردَّ اعتداء إحدى (بنات الهوى) إلَّا بعد الاستنجاد بالوالي والمفتي، ونلحظُ أيضاً المكانة التي شغلتها تلك (الخاطية) في نفوس الأهلين: ((وفي تلك الأيَّام كثرت بنات الخطا، ويتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلة قاضي الشَّام بعد العصر إلى الصالحيَّة، فصادف امرأةً من بنات الخطا، تسمَّى سلمون، وهي تعربدُ في الطريق، وهي سكرى ومكشوفة الوجه، وبيدها سكِّين. فصاح جماعة القاضي عليها، أن ميلي عن الطريق، هذا القاضي مُقبلٌ، فضحكت وصاحت وهجمت على القاضي بالسكِّين، فأبعدوها عنه أعوانه، ثمَّ جمع القاضي الوالي والمُتسلِّم، وذكر لهم ما وقع له مع هذه العاهرة، فقالوا له هذه من بنات الخطا واسمها سلمون، وافتتن بها غالبُ الناس. حتَّى صار يُنسبُ إليها كلُّ حاجةٍ أو متاعٍ، فيقولون هذا المتاعُ سلمونيٌّ، وهذا الثوبُ سلمونيٌّ. فأخرج المُفتي فتوى بقتلها، وإهدار دمها تسكيناً للفتنة، ففتَّشوا عليها وقتلوها. وأرسلوا مُنادياً يُنادي في البلد، أنَّ كلَّ من رأى بنتاً من بنات الخطا والهوى، فليقتلها ودمها مهدورٌ، فسافر عددٌ منهنَّ وانزوى البقيَّة)) الصفحة 57 من الكتاب.
4). سنة 1161هـ (1748م):
يُظهرُ الإخباريُّ (البديري الحلَّاق) تبرُّمه وشكواه من تفشِّي الفساد الأخلاقيِّ، ومجاهرة (بنات الخطا) بالمعصية، لا بل تجرُّؤهنَّ وإقامتهنَّ استعراضاً علنيَّاً زمن الوالي (أسعد باشا العظم): ((وفي تلك الأيَّام ازداد الفساد وظلمت العباد وكثرت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار. وممَّا اتَّفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيَّام أنَّ واحدةً من بنات الهوى عشقت غُلاماً من الأتراك. فمرض، فنذرت على نفسها إن عُوفي من مرضه لتقرأنَّ له مولد[اً] عند الشيخ أرسلان. وبعد أيَّامٍ عُوفي من مرضه، فجمعت شلكَّات البلد وهنَّ المُومسات، ومشين في أسواق الشَّام، وهنَّ حاملاتٍ الشموع والقناديل والمباخر، وهنَّ يغنِّين ويصفِّقن بالكفوف، ويدققن بالدفوف، والناس وقوفٌ صفوفٌ تتفرَّجُ عليهنَّ، وهنَّ مكشوفات الوجوه سادلات الشعور، وما ثمَّ ناكرٌ لهذا المُنكر، والصالحون يرفعون أصواتهم ويقولون الله أكبر)) الصفحة 112 من الكتاب.
5). سنة 1162هـ (1749م):
الشكوى إلى الوالي (أسعد باشا العظم) من تفشِّي تلك الظاهرة، والمطالبة بوضع حدٍّ لها: ((وفي هذه الأيَّام عملوا ديوان، وأخبروا أسعد باشا بكثرة المُنكرات واجتماع النساء بنات الهوى في الأزقَّة والأسواق، وأنَّهم ينامون على الدكاكين وفي الأفران والقهاوي. وقال: دعنا نعمل لهم طريقاً إمَّا بترحيلهم أو بوضعهم بمكانٍ لا يتجاوزونه، أو نتبصَّر في أمرهم. فقال: إنِّي لا أفعل شيئاً من هذه الأحوال، ولا أدعهم يدعون عليَّ في الليل والنهار، ثمَّ انفضَّ المجلس، ولم يحصل من اجتماعهم فائدة)) الصفحة 127 و128 من الكتاب.
6). أصبح (البغاءُ) قانونيَّاً في 9 ذي القعدة 1162هـ (21 تشرين الأوَّل 1749م) بعد ترتيب ضريبةٍ على (بنات الهوى) وتعيين ضابطٍ عليهنَّ: ((وفي ذلك اليوم أمر الحاكم بأن يُخرجوا بنات الهوى، وهم الشلكَّات، من البلد إلى خارج البلد، وأظهر أنَّه يُريدُ أن ينفيهنَّ إلى بلادٍ أخرى، ونبَّه على مشايخ الحارات أنَّ من وُجد في حارته ذو شبهةٍ لا يلومنَّ إلَّا نفسه، فانفرجت بعض الكربة، ثمَّ ما بقي هذا التشديد غير جملة أيَّامٍ، إلَّا وقد رأينا البنات المذكورات يمشين كعادتهنَّ في الأزقَّة والأسواق وأزيد، ورجعن إلى البلد، ورتَّب الحاكم عليهنَّ في كلِّ شهرٍ على كلِّ واحدةٍ عشرة غروش وجعل عليهم شوباصيَّاً، بل قطع من الناس وسلب والله المستعان)) الصفحة 134 من الكتاب.
مضر كنعان
اللاذقـيَّة 4 كانون الأوَّل 2018م