دور بريطاني وتفاهم مع المخابرات الأميركية
كيف وصل حسني الزعيم إلى وضعية القدرة على تنفيذ الانقلاب الذي استمر أربعة أشهر وأياماً؟ الجواب، مثلما يكون لفلسطين حسبتها دائماً، في التطورات العربية الداخلية في الإقليم؛ كانت هذه “الفلسطين” تكمن في خلفيات الانقلاب، لأن احتلالها جعل المجتمع السياسي السوري يغلي ناقماً على أداء الحكومة، إبان حرب عام 1948، وكان الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على التغيير آنذاك. ولكي لا يكون التغيير على النحو الذي يتماشى مع طموحات الشعوب، كانت سفارات الغرب تؤسس الصلات سراً مع الضباط، لكي تستبق انقلاباً نظيفاً، أو ذا نزعة تحررية، وتُحل بدلاً عنه انقلاباً مخادعاً، يبدأ بالكذب وبالوعود القصوى، على أمل أن يحقق لنفسه التمكين. وكان للمخابرات البريطانية دور رئيس في التحضير للانقلاب، ومساندته والحث على تأييده إقليمياً، ولم تغب وكالة المخابرات الأميركية، سي آي إيه، عن المشهد، وكان لها تفاهماتها مع حسني الزعيم. وقد كان الانقلاب العسكري الثاني في العالم العربي الذي قاده حسني الزعيم في سورية، هو الانقلاب الأول التقليدي الشامل، إن عددنا انقلاب بكر صدقي في العراق، في أكتوبر/تشرين الأول 1936 عملاً غير شامل، غايته إضعاف النظام الملكي والهيمنة عليه مع أبقائه وليس إسقاطه.
تزدحم حكاية انقلاب حسني الزعيم بالغرائب واللقطات المثيرة والمفارقات. بدأت فصول الحكاية بالمشترك نفسه الذي يجمع بين معظم الانقلابات في التاريخ المعاصر، وهو أن الجيش “اضطر” إلى المبادرة لإنقاذ الشعب، وتصويب الحياة السياسية، وضمان السلم الأهلي والقضاء على الفساد. والطريف أن حكاية حسني الزعيم نفسها انتهت، بعد وقت قصير، ليس بما يؤكد على نقيض كل هذه المعاني وحسب؛ وإنما بما يزيد عنها حقائق شائنة كثيرة لا يختلف عليها اثنان، وأثبتتها المراسلات والوثائق: فالرجل صنيعة المخابرات البريطانية، وله مع وكالة الاستخبارات الأميركية الناشئة حديثاً علاقة تنسيق يومي.
واتضح من مذكرات أصدقاء حسني الزعيم وزملائه، وخصوصاً وزير خارجيته اللبناني، عادل عسيران، أنه ظل متزلفاً بخفّة، لإسرائيل. استمات في طلب ود بن غوريون الذي احتقره ورفض لقاءه. ومتجرئ إلى حد المقامرة، في استعداده لإبرام صلح منفرد مع إسرائيل، والضرب بمشاعر العرب عُرض الحائط، وأنه هو صاحب فكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين في مقابل المال الإسرائيلي، وفوق ذلك كله، كان يحلم ببناء ديكتاتورية عسكرية، على النقيض من نص البيان الأول للانقلاب، وكان مندفعاً في تصرفاته كما المخبول!
إن كان للمرء أن يفسر استقبال بسطاء المواطنين السوريين انقلاب حسني الزعيم بكل الترحاب؛ فإن العقل ليعجز عن الإحاطة بكل أسباب ترحيب الطبقة السياسية به. فلا يكفي أن يُقال إن نجاح انقلاب الزعيم كان طبيعياً ضمن تداعيات حرب فلسطين واحتقان المؤسسة العسكرية وطغيان إحساسها بالإهانة. ذلك لأن سورية، بطبيعة موقعها وتاريخها، تكون دائماً في مركز اهتمام السياسة الإقليمية للأقطار النافذة، وعلى صعيد الاستقطاب، ظلت بين عاديةٍ تسعى إلى استقطاب آخرين، أو مَعْدوٍ عليها، أي مطلوبة، لأن يستقطبها آخرون. هكذا كانت في زمن الانقلاب الأول فيها. فقد انقسمت الطبقة السياسية بين موالين للسعودية ومصر الملكية، وآخرين موالين للعراق وللهاشميين، وطرف ثالث، انتهازي، يمثله معظم القوميين السوريين، ومعظم البعثيين، وفي طليعتهم أكرم الحوراني، المدني الذي كان يركز على التوغل في الجيش، وكسب نفوذ الضباط، ووصفه السياسي والعسكري العراقي، طه الهاشمي، المتخصص في الجغرافيا الاستراتيجية، إنه “في كل انقلاب، ومع كل انقلاب، وضد كل انقلاب”!
مقدمات
كان الخلاف بين أقطاب الحكم، قبل الانقلاب، قد سهّل لحسني الزعيم تأليب الجيش على الساسة، وقد طرح نفسه مخلّصاً للبلاد من الأزمة التي عصفت بها، وبلغت ذروتها في ديسمبر/كانون الأول 1948. فقد كان صدور قرار تقسيم فلسطين الشرارة التي أشعلت الحريق، وذلك حين خرج السوريون غاضبين، يهتفون ضد روسيا وأميركا، وهاجموا مكتب الحزب الشيوعي السوري ومنزل أمينه العام، خالد بكداش، وأرادوا الفتك بالشيوعيين، ما لم يرفضوا ويدينوا موقف الاتحاد السوفييتي. واحتدمت المظاهرات بعد إقرار مجلس الأمن الهدنة النهائية (16 /11 /1948). وكان شكري القوتلي، صاحب الفضل على حسني الزعيم، إذ هو الذي أقال قائد الجيش في حرب فلسطين، عبد الله عطفة، وعيّن الزعيم بدلاً عنه، ورقّاه إلى رتبة عميد، مستأنساً بشعبيته لدى الضباط، وهي شعبيةٌ تأسست على شجاعة مقرونةٍ بالتهور مع ضعف لافت على مستوى التخطيط العسكري.
ولما هاجم المتظاهرون مقار الشرطة وسراي الحكومة، وطالبوا بإسقاط الحكومة، بادر حسني الزعيم، بدون تعليمات من المستوى السياسي، بنشر الجيش، ما اضطر الرئيس القوتلي إلى تكليف القوات المسلحة باستلام الأمن في البلاد. وأعلن جميل مردم بيك استقالة حكومته، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة خالد العظم، وهو سياسي مخضرم، إقطاعي وأرستقراطي طموح، سرعان ما نشأت الفجوة بينه وبين حسني الزعيم. وتولى النائب النافذ، فيصل العسلي، حتى من خلال خطابات في البرلمان، عملية ممنهجة للحط من شأن الجيش، ليوفر، من دون أن يدري، أمثلة يستطيع من خلالها حسني الزعيم، إقناع الضباط بمساندته والمشاركة في الانقلاب الأول في تاريخ سورية.
وعليه، اجتمع حسني الزعيم بضباطه في القنيطرة، واتُخذ القرار، وبدأ الجيش عملية الاستيلاء على الحكم في الساعة الثالثة من صباح يوم الأربعاء 30 مارس/آذار 1949 بعد أن خرجت الوحدات العسكرية من معسكر “قطنا” على مسافة 20 ميلاً من العاصمة، وسيطرت على المفاصل الحساسة، بما فيها مقر الحكومة ومبنى البرلمان والبنك المركزي والإذاعة ومركز الهاتف وقيادة الدرك والأركان العامة. واعتقل رئيس الجمهورية، شكري القوتلي، ورئيس الوزراء، خالد العظم، وجميع القيادات الأمنية وبعض القيادات السياسية. وفي السابعة صباحاً، بدأت الإذاعة في بث موسيقى المارشات العسكرية، ثم أعلن البلاغ رقم 1، وكان البعثي أكرم الحوراني نفسه هو الذي صاغ وأذاع البيانات العسكرية التي تسترضي الناس، وتبرر الانقلاب، وتقول إن الحركة الانقلابية اضطرارية ومؤقتة، وإن القوات المسلحة غير طامعة باستلام الحكم، وإنما تعمل على تهيئة الأجواء، لقيام نظام ديمقراطي سليم.
مراسيم ووعود
وخلال ساعات، بدأ الانقلابيون في إصدار المراسيم المحملة بالوعود المرضية للشعب: سورية بلد صغير، يكفيه عدد محدود من النواب، وللمرأة حق في التمثيل كالرجل. الجهاز الحكومي متورم، ويعاني من بطالة مقنّعة، ولا بد من تقليصه، والإبقاء على الأكفاء المخلصين. لا بد من القضاء على البطالة بطرق إنتاجية وبالاستثمار. مكافحة الغلاء واجب وطني. توزيع الأراضي الأميرية والمتروكة، وتحديد الملكية الخاصة الضخمة، والتخلص من الإقطاع. مكافحة المذاهب “الهدامة”، كالشيوعية وغيرها وإحياء الوعي القومي، ورفع مستوى حياة الكادحين. دعم الجيش وتجهيزه بأحدث المعدات، لكي يكون أهلاً للقيام بالواجبات القومية. إنشاء ديوان للمظالم يتلقى شكاوى افراد الشعب.
وأصدر حسني الزعيم تباعاً المراسيم والأوامر التي تعزز استيلاءه على السلطة: أمر عسكري يقضي بتسلم قائد الجيش مهام الحاكم العسكري للجمهورية، ويتمتع بصلاحيات رئيس الدولة. يتولى الحاكم العسكري السلطتين، التشريعية والتنفيذية، ريثما تعود الحياة النيابية. للحاكم العسكري الحق في إلغاء أي امتياز، أو ترخيص، لأية صحيفة، يرى أنها تخل بالمصلحة العامة. على النواب أن يتفقوا على رئيسٍ للحكومة يوافق عليه، وإن لم يتفقوا، فإنه سيأمر بحل مجلس النواب.
خلال أيام، قدم الرئيس القوتلي المحتجز استقالته هو ورئيس حكومته. أمر حسني الزعيم بحمل الرجلين، مع رئيس مجلس النواب، فارس الخوري، في سيارة مصفحة، تطوف بهم شوارع دمشق، لكي يروا بأمهات أعينهم كيف يؤيد الشعب “الزعيم”!
وما أن بدأ ذوبان الثلج، عن صورة هذا “الزعيم”، حتى أحس مؤيدوه من الطبقة السياسية بالخجل من أنفسهم. وكلما نشر واحد من الشهود مذكراته عن فترة حسني الزعيم، كانت تتكشف أسرار المؤامرة الانقلابية التي أطاحت النظام النيابي في سورية. فقد جاءوا بحسني الزعيم لكي يبرم اتفاقية خط التابلاين النفطي، بشروط بخسة، ليست في صالح الشعب السوري، ولكي يناط به الحفاظ على أمن إسرائيل، ولكي يوقع اتفاقية النقد مع فرنسا، ولرعاية الخصوصية التي تتمتع بها المدارس والإرساليات الفرنسية وإعادة ما صادرته الحكومة منها بعد الاستقلال.
وكتب أحد قادة الأمن المطلعين، وكان مسؤولاً في شعبة الاستخبارات العسكرية، يُدعى سامي جمعة؛ في مذكراته، أن حسني الزعيم ارتبط بالموساد الإسرائيلي، عن طريق شخص من زعماء إحدى عشائر سهل الحولة (يذكر اسمه)، وهذا ما جعل بن غوريون يُحيل أمر الاتصال بالزعيم إلى مستويات دُنيا، وجعل الأخير يتوسل اتصالاً على مستوى أعلى. وكان من بين أقبح أعمال حسني الزعيم تسليم مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعادة، إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته، وهو الذي تعرض لملاحقتها بسبب إعلانه إطلاق حركة قومية شاملة للقتال ضد إسرائيل. فقد جرى تسليمه يوم 7 يوليو/تموز 1949 وأعدم فجر اليوم التالي!
وكان مصير حسني الزعيم أسوأ بكثير من حيث الشكل والمضمون، من مصير المغدور أنطون سعادة. فالأول خانه رفيقه وصديقه وشريكه، سامي الحناوي، وانقلب عليه. فبعد أن نُفذ فيه حكم
الإعدام بزخات كثيفة من الرصاص، فجر يوم 14 أغسطس/آب 1949 داسه الجنود بأقدامهم!
هكذا حمل الانقلاب الأول في سورية إلى قمة السلطة رجلاً غريب الأطوار، خفيْ المقاصد، سرعان ما انكشف أمره، قبل أن يقع الانقلاب عليه وإعدامه. لكن الفصل الزمني القصير للانقلاب ترك آثاراً وتداعيات، عانت منها سورية طويلاً، وأحدثت في المناخ السياسي، وفي بُنية القوات المسلحة، تشوهاتٍ، كان لها أثرها الفادح على تاريخ سورية المعاصر.