بين عالم الطبيعة الصامتة في البدايات، أي منذ أواخر الخمسينيات، وعالم التعبيرية الصارخة كما عبّرت عنها الوجوه، أي منذ السبعينيات، تجربة تمتد على ما يقارب ستين عاماً، لفنان غادر بلده سورية شاباً، إلى ألمانيا التي استقرّ فيها، حتى رحيله منذ أيّام، حاملا معه جذوره العربية، من موروث غني بالرموز، وطبيعة ساحرة، حمل منها مُروجها وسُهولها وبُيوتها.
تفرّد الفنّان السوريّ الراحل مروان قصّاب باشي، بتجربة متميّزة على غير صعيد، لكنّ الأبرز فيها هو “وجوهها” التي عكستْ عُمقَ ارتباطه ببيئته السورية وطبيعتها، حتّى في أثناء اندماجه الجزئيّ بالبيئة الألمانية، وتأثّره بها وبالبيئة الغربية عموما، بما فيها الفرنسية وما تركته في تجربته من آثار “انطباعية/ تعبيرية”، من خلال بعض كبار فنّانيها. كانت الوجوه في تجربة باشي هي أهمّ ما قدّمه إلى الساحة الفنية الغربية، بحيث جرى تقديمه بوصفه الفنّان الألماني من أصول سوريّة، وتركّزت الأضواء عليه نقديّا وأكاديميّا، فاحتلّت تجربته مكانة بارزة في غاليريهات العالم ومتاحفه ومحافله الفنية.
ومن جانب آخر، شديد الأهمية، شكّلت العلاقة الاستثنائية التي ربطت الفنّان السوريّ باشي، بالروائيّ العربيّ، صاحب “مدن الملح”، عبد الرحمن منيف، إحدى أبرز المحطّات “الثقافية” في حياة الرجلين، وقد كانت استثنائية في كلّ ما تعنيه العبارة، إذ يندر قيام علاقة كهذه بين عالمَيْ الأدب والفنّ التشكيليّ، خصوصًا لجهة ما أثمرته هذه العلاقة من نتاج إبداعي مشترك، أو متبادل وتفاعليّ في آن، فهذا يكتب نصوصًا أدبية، وذاك ينتج أعمالا فنية موازية ومتشابكة ومنخرطة في المناخ ذاته.
هاتان هما العلامتان الأبرز في تجربة هذا الفنّان العالميّ، وهما مدخل إلى عالمه الذي نحاول التعرّف إلى ملامحه، من خلال مفاتيح تتيح الإطلالة الشخصية والفنية. لقد كانت بداية تعرّفي إلى الفنّان، وإلى عالمه الفنيّ الواسع، من لقاء معه في دمشق، وتحديدًا في بيت الروائيّ العربيّ عبد الرحمن منيف، حين كنتُ أزوره لأمور تتعلّق بمشروع إصدار كتاب/ مجلة “قضايا وشهادات” (الذي صدر في كتاب دوري بإشراف الثلاثيّ سعد الله ونّوس ومنيف وفيصل درّاج).
كانت تربط منيف وقصّاب باشي تلك العلاقة الاستثنائية، وقد لمستُ مدى حميميّتها في لقاءات عدة، كما أنّها علاقة أثمرتْ كتابات عدة من منيف، تناولت تجربة الفنّان بعمق وتوسّع، كما أثمرت، في المقابل، أعمالا فنية في مراحل عدّة من تجربة الفنان. ثمّ تتالت لقاءاتي مع الفنّان، وكان آخرها في معرض له أقيم في دولة الإمارات العربية المتّحدة، وفي دبي تحديدا.
السيّاب والرزّاز.. والوجوه
أوّل ما لفتني في تجربة الفنّان، ومنذ ذلك اللقاء الأول، لوحتان تنتميان إلى مرحلة سابقة من عمله، في الأولى كان لوحة لوجه المفكّر العربي منيف الرزّاز، ولوحة أخرى لوجه الشاعر السيّاب، بما انطوى عليه كلا الوجهين/ اللوحتين من دلالات عميقة في “المأسويّة”. ففي لوحته لوجه منيف الرزاز كان الأحمر ساطعا تماما، ما دفعني لأن أسأله عن هذا الملمح البارز في اللوحة، فقال لي: الأحمر في لوحة الرزّاز كان كما لو أنه نبوءة بمصيره الفاجع، فالوجه هنا لم يكن “بورتريه”، بل هو عالم كامل، لذلك كان الجزء السفليّ من اللوحة شبه مقصلة. وكذلك الأمر مع لوحة وجه السيّاب ورأسه، حيث هناك فوق الرأس أحشاء إنسان، ما يجعل العمل عملا دراميّا أو تراجيديّا حتى، ومسكونا بالتوتّر.
مثّلت هاتان اللوحتان، وتمثّلان دائما، علامة بارزة في تجربة الفنّان عمومًا، وفي تجربته مع الوجه الإنسانيّ على نحو خاصّ. إنّهما تختزلان عالمًا واسعًا من الوجوه، والوجوه هنا هي أوسع من الدلالة المباشرة للوجه، فهي تمتدّ- تعبيريّا- بخطوطها وألوانها وضربات فُرشاتها الصاخبة، لتشخّص ملامح ومعالم من حياة الفنّان، من بيئته وانطباعاته ومعايشاته، وغالبا ما تطغى بيئته الدمشقيّة، والسوريّة عموما، على هذه المعالم المحتشدة بالنور الطبيعيّ للشرق.
أمام مشهديّة الوجوه وما تنطوي عليه، لا يسع المشاهد إلا أن يتساءل، إن كان حيال وجه واحد، وما الذي يميّز بين هذه الوجوه؟
حمل مروان قصاب باشي، في رحيله الدائم، روح الثقافتين العربية والغربية (الألمانية تحديدا)، وظلّ يتنقل بين اللوحة اللونية والغرافيكية، لكنه تخصّص في رسم سوى الوجه الإنساني، الوجه الذي يعبر عنده عن عمق علاقته بتراب أرضه، فتميل غالبا إلى الألوان الترابية. يرسم عددا هائلا من الوجوه لا تشابه بينها، لكنها تتناغم وترسم إيقاعا موسيقيا من الأسود الحزين.
نلتفت، نحن متابعي أعمال “الوجوه” عند هذا الفنّان، إلى أنَنا أمام تنوّع داخل “وحدة” التجربة، وأنّ التباينات حاضرة بقوّة بين عمل صغير وعمل أكبر، فبينما كان يميل في بداياته إلى “الحجم” الصغير للوجه، انتقل لاحقا إلى صيغة مغايرة، فصار الوجه، كبير الحجم غالبا، وشائه (مشوّه) الملامح تقريبا، بل تكاد تغيب ملامحه خلف الغامض والمجهول، لتحيل إلى عوالمه الخفيّة. هنا نحن أمام فنّان يرسم الوجه، كما يقول “لا ليكون مجرّد وجه، بل ليجسّد ذكريات عن الوطن؛ بسهوله وجباله والحياة فيه، من ذكريات الطفولة على أطراف دمشق، حيث تحوّلت الطبيعة بترابها الأحمر والبنيّ، والسماء الزرقاء، إلى آفاق لا نهائية. بل “لقد صار الرأس، في الثمانينات، يبدو متطلعا نحو السماء، ومع تغيّر الزمن، بات الرأس رمزا للحبّ”.
روحانيّات في الفنّ
تجربته مع الوجوه، لا ترتبط، ولا بأي صورة من الصور، بأيّ من التجارب السورية، كان يحب التأكيد على أنه ابن تجربته في ألمانيا “أنا منذ خمسين عاما اتخذتُ الرأس ثيمة وموضوعا لعملي، ولا تستطيع ربطي بالتجربة السورية، رغم أن جذوري سورية، وتظل تؤثر في تجربتي”. ويتابع أن عبد الرحمن منيف، في كتاب “رحلة الحياة والفن”، وصفه بالفنان العنيد “فهناك إصرار على هذا الموضوع، وهذه الثيمة، والثمن كبير من المعاناة والتفكير”.
نبقى معه في عالم الوجوه، حيث شاهدنا له عمله الكبير (99 وجهاً)، الذي كان مشاركا في أحد معارضه، ونتساءل كيف تشكلت هذه التجربة، وما الذي وراءها، فيقول لنا إنّ اللوحة بدأت بفكرة حفر خمس عشرة قطعة على النحاس، وكتابة نصوص مرافقة لها، وأنّها تمثل الرقصة المولويّة، وفجأة أخذت تكبر، حتى وصلت حوالي مائة وثلاثين قطعة، عندها اختار منها تسعًا وتسعين قطعة، جمعها في عمل واحد معا. وربما جاء هذا العدد بالصدفة، وربما هي، بصورة لاشعورية، ترتبط بأسماء الله الحسنى، كما أنّ هذا العدد جميل، والمسألة ليست تديّنا، بل هي مرتبطة بالروحانيّات، بقدر ارتباطها بالبعد الحضاري. وبخصوص إمكانية أن يفتح الفن آفاقا على الروحانيات والعالم المجرد والمطلق، ففي حساب الفنّان أنّ هناك قدرات روحانية في الفن، ولكن بنماذج مختلفة، فليس كل فنّان عظيم قادرا على الاتصال بهذه الروحانيات، إذ ثمّة صعود نفسي وعاطفيّ، لكنّه لا يعني الارتباط الديني.
يرتبط هذا البعد الروحانيّ، في عمل الفنّان، بذلك الغموض السحريّ، أو السحر الغامض أيضا، فلوحته لا تكشف أسرارها بسهولة، وقد اعتبر بعض النقاد الغربيين أن الأمر مرتبط بمصادره ومرجعيّاته، هذه المتمثلة في مفردات من الحضارة الشرقيّة، وما فيها من سحر. فحين ننظر إلى لوحاته المذكورة، وهي عبارة عن تسعة وتسعين رأسا، نجد كلا منها يختلف عن الآخر، وربّما يساعده على ذلك الإرث العربيّ الإسلاميّ الذي يتّكئ عليه. يمكن قول هذا، رغم “الغربة” التي جسّدها انتقال الفنّان من بيئته الأولى، فهو عرف كيف تكون له علاقة راهنة مع ما يرسم، سواء كان تفاحة أو امرأة أو غيرهما، فقد ظلّ بعيدا عن الطبيعة والبيئة الجديدتين، ومنذ وصوله إلى برلين، وحلول المدينة الجديدة مكان الطبيعة، ظلت أرضه في وجدانه، فتحوّلت إلى وجه أو رأس.
قسوة وتمرّد في الحفر
ولأنّ عمله، عموما، يتميّز بالصلابة والقوة، بل بالخشونة والقسوة، يميل الفنّان أحيانا إلى الاشتغال بالحفر، وتحديدا إلى الغرافيك، فهو يمنح إمكانيات أكبر من القماش واللون، وهنا يشعر الفنّان باشي “أن الحفر على النحاس يشبع لديّ مشاعر الامتلاء أكثر مما تعمل اللوحة اللونية، كما أن المعدن يتحمل مشاعر التمرّد والقسوة التي أشعر بها أثناء العمل، وهذا ما لا يتحمّله الورق، لذا تجد تنوعاً في أعمالي، يعبّر عن رغبة البحث عن الوجه الذي أريد. فيما الورق يحتاج إلى رقّة، فأستخدمه للمواضيع الناعمة، وهي تجربة مختلفة حتى عن الرسم على القماش. والأشياء تكمل بعضها البعض”.
ورغم ما يبدو تكرارًا للوجوه في تجربته، يصرّ باشي، وبلا كلل أو ملل على مزيد من الحفر في الوجه، في هذا المعْلَم البارز، في المكان نفسه كما يقال، مبرّرا ذلك بأنه لم يشبع من هذه الوجوه، لكي يتحول إلى موضوع وشكل آخرين، يقول: الشبع بالنسبة لي يعني النهاية، وأنا لم أشبع بعد، فالاستمرار هو نتيجة الشبق الغامر لخلق الجديد، وحين ينتهي هذا الشبق، فستنتهي القدرة على الخلق والإبداع والتجديد. أنا أريد أن أشعر أنني أستطيع، بالفكر والحسّ، متابعة هذا العمل. هناك مجموعة من الرموز تتجمّع في سلسلة يمكن أن تشاهدها كما لو كانت فيلما سينمائيا، هي فصول متسلسلة من بداية التجربة حتى اليوم، فهذه الوجوه ترسم سيرتي ومسيرتي. هناك تكرار طبعا، لكنه في سياق التجربة نفسها. وكما نعلم، هناك فرق بين الرسّام الموهوب والطبيعي وبين المحترف المهنيّ.