من يزر دمشق القديمة لابد وان يعرج على (بيت جبري) . وربما (يعرج) هي الكلمة الادق في المدينة العتيقة المليئة بالأزقة الضيقة, والتي تتفرع انحناءاتها إلى مداخل غير منتهية من الحارات. عمره 263 سنة. مساحته 1200م مربع ويضم ما يقارب 23 غرفة, صحن داره الذي تبلغ مساحته 700م تتوسطه بحرة كبيرة نسبيا وتلقي بظلالها عليها اشجار الليمون والنارنج وتتوضع على جانبيها اصايص الورد الجوري والقرنفل وزهرة الخبيزة والشمشيرة. ولا ينسى اصحاب البيت الذي تحول إلى مطعم من اكثر مطاعم دمشق شهرة وازدحاما ان يضيفوا لكل هذا الجو الساحر اغاني فيروز التي تسبح في بحر من السمر والاحاديث المرحة وقرقعة النرجيلة.
باب البيت يفاجئك. عليك ان تنحني قبل رفع قدمك الاولى فوق عتبة البيت. دمشق التي تحترم حرمة بيوتها وتخاف على خصوصيات سكانها تزيد من الأمر تعقيدا فتضيق لك باب الدخول امام الباب الواجهة يسمى هذا النوع من الابواب بالخوخة!؟ باب صغير ضمن باب كبير.. نواة وقشرة.. ومن ثم الممر الضيق قبل الالتفاتة إلى اليسار حيث تواجهك المقالات التى كتبت في الصحافة المحلية والعربية عن البيت الاثري الذي تحول إلى مطعم .
لابد ان الجيل الذي يتردد على المطعم الشهير يختلف إلى حد كبير عن سكان ذلك البيت في الزمن الماضي. ضيوف البيت من هواة السهر من اصناف كثيرة لكنهم جميعا يلبسون الجينز ويضعون الجل على شعرهم وبعضهم من الشباب يضع الخليوي الآن إلى جانب مفاتيح سيارته بينما تهتم عيناه بمراقبة الزبائن النشيطين على الدوام. لكن البيت يترك لمن لا يحب الكلام فرصة كبيرة للتأمل. فالبيت الاثري المليء بالزخارف متعة للعين في تناسقه ودقة تناظره ورهافة الذوق الذي يعتني بترميمه وديكوره حاليا.
أقسام البيت بيت جبري نموذج للبيت الدمشقي بتقسيماته الجوانية والبرانية, فالليوان يقع إلى الجنوب من صحن الدار ويستخدم للجلسات الصيفية حيث يصبح عازلا لأشعة الشمس في النهار وإلى جانبه غرفتان كبيرتان تعرفان بالبراني والجواني ويقع فوقهما القصران الشرقي والغربي. البراني اقرب إلى باب الدار وتستخدم لاستقبال الضيف الغريب اما الجواني فللجلوس والمنامة. باقي ملاحق البيت في الطابق السفلي تحيط بصحن الدار وتتنوع استخداماتها بين مبيت للخيل أو الخدملك وغرف المطبخ والمواد التموينية. اما القاعة الرئيسية التي يقود اليها درج حجري يصعد من صحن الدار وتغطيه عريشة الياسمين فتتكون من ثلاثة طرازات مرتفعة عن ارض الدار نصف متر.
تلتقي هذه الطرازات بفسحة تتوسطها بحرة تسمى بالفستقية وجدران القاعة مزخرفة بالأبلق (يسمى الآن الأملق) وهو حجر محفور وفق خطوط واشكال هندسية مرسومة عليه, ومطلية بطينة ملونة معتقة ويرتفع سقف القاعة في بعض اقسامها إلى 15 مترا.
وسقوف هذه القاعة ملبسة بخشب معروف بالعجمي وهو خشب معالج بطريقة خاصة اذ يتم نقعه بالماء والكلس لمدة ثماني سنوات وثم ينشف لاربع قبل ان تتم زخرفته بألوان طبيعية مستخرجة من التربة والنباتات وبعض الزيوت الطبيعية, وتتقابل نوافذ القاعة وتطل على صحن الدار فيما تترك للنوافذ العليا مهمة الاضاءة والتهوية.
ومن حيث تجلس على احدى الطرزات تتناول قدحا من الشاي يمكنك ان تراقب سائحا أجنبيا عجوزا يتمعن في زخارف القاعة وما كتب عليها من شعر عربي وقرآن كريم. يهز السائح رأسه باعجاب ويلتقط لزوجته الشيباء صورة على الخلفية الشرقية. كل الاجانب الذين نراهم في بيت جبري فيهم بعض حنين الشرق, وهو فضل يعود للبيت الذي استيقظت فيه هذه الروح مجددا. في الجهة الغربية من الدار توجد قاعة صغيرة بطرزة واحدة كانت تستخدم لاستقبال النساء, فيما يتموضع تحت القاعة الرئيسية المطبخ الذي اصبح مكانا لصنع نراجيل المطعم فيما يتوسط ممره الصاج الذي تنتشر رائحة خبزه حتى مدخل حارة الصواف موقع الدار.
تاريخ البيت يعود تاريخ بناء البيت إلى العام 1737 كما هو مكتوب على احد جدرانه. وكان يملك البيت قبل (آل جبري) (آل الشلبي) الذين تركوه وسافروا ليصبح باسم (آل جبري) ويبقى كذلك. وعاش في البيت الشاعر الدمشقي (شفيق جبري) كما عاش فيه السياسي الدمشقي (رشاد جبري) الذي كان نائبا عن (الغوطيين) في دمشق في اول دورة للبرلمان السوري بعد الاستقلال. اقام في البيت ايضا الملك (فيصل) ملك العراق لمدة ثلاثة ايام كما كان الدار الاثري مكانا لانعقاد اجتماعات الثوار والقادة المعارضين للانتداب الفرنسي على سورية في العشرينيات والذين كان بينهم الدكتور (عبدالرحمن الشهبندر) و(منير افندي شيخ الارض) و(خالد لافندي الخطيب) و(عبدالوهاب افندي عفيفي المصري) و(حسن بك الحكيم) و(توفيق افندي الحلبي) و(سعيد بك حيدر) وبينهم من حكم بالسجن لعشرات الاعوام في تلك الفترة أو اعدم في ساحة المرجة الشهيرة في العام 1922. من بعد ذلك تناقل الورثة البيت حتى كان آخر من سكنه السيدتان (سعاد ونهيدة جبري) (الاخيرة كانت أول امرأة سورية تتخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت), وهجر البيت تماما في العام 1977 بعدما انتقلت السيدتان للاقامة في بيروت لصعوبة (الاهتمام وتنظيم هذا البيت الكبير وترتيبه) . بعدها تحول البيت إلى مخزن وورش عمل لتجار سوق (البزورية) و(الحريقة) .
ومن يعيش في احضان الجمال لا يستطيع تقدير قيمته فعاثوا هؤلاء في البيت فسادا حتى أوشك على الانهيار, فانتبه لأهميته التراثية أحد احفاد مالكيه وفكر بترميمه. الترميم يقول السيد (راشد جبري) صاحب مشروع المطعم بأن الفكرة لم تكن واضحة لديه في البداية. (اذ كان كل شيء ينهار ويضيع امام عيني) وكانت انذارات المديرية العامة للاثار والمتاحف والمحافظة ولجنة حماية دمشق القديمة التي تطالب بالانتباه للبيت وحمايته تصل ورثة البيت باستمرار, وكان السيد (رائد) قد بدأ اتصالاته بالورثة الذين يقارب عددهم الثلاثين طالبا يد العون من اجل ترميمه. الا ان المساعدات التي كانت تأتي بين وقت وآخر لم تكن كافية للابقاء على عملية الترميم مستمرة وهو يذكر هنا جهود عمته (نهيدة جبري) و(نوال جبري) و(عائدة عبدالعزيز الرواس) زوجة وزير الإعلام العماني التي كانت عاشت وتربت في هذا البيت. إلا ان كل ذلك لم يكن كافيا. فالبيت بحاجة لعمليات ترميم مستمرة ودائمة.
ومن هنا جاءت فكرة تحويل البيت إلى مطعم كمورد دائم لعمليات الاصلاح والترميم. تمكن (رائد جبري) من الحصول على موافقة الثلاثين وريثا على فكرته وبدأ عملية الترميم التي ترافقت مع افتتاح المطعم بعد معارك متكررة مع المحافظة التي لم تكن قد سمحت له باقامة مشروعه. الآن مضى على المشروع أكثر من عام, وامتدت سمعته إلى احتضان نشاطات ثقافية أيضاً.
الهم الثقافي يطمح (راتب) صاحب المشروع ومدير المطعم إلى اقامة معرض فني دائم في احدى غرف البيت وكان سبق واقام معرضا فنيا لنخبة من الفنانين السوريين سمي (منمنمات معاصرة) واشترك فيه 16 فنانا سوريا من بينهم (صفوان داحول) و(نذير اسماعيل) و(مصطفى علي) وضم ما يقارب ثلاثين لوحة حديثة لم يسبق ان عرضت من قبل. ولا تروق لراتب فكرة ان يكون البيت لمحبي النرجيلة والوجبات الخفيفة فقط بل يزيد من تركيزه على أهمية البعد الثقافي للبيت اذ يشترك بـ 12 صحيفة عربية ومحلية تسمح لرواده الصباحيين بالاطلاع عليها, كما سبق واقام عروض خيال ظل بين رواد المطعم ويخطط الآن لجمع كتب تراثية بهدف افتتاح مكتبة تراثية في البيت الاثري. كل هذا لكي تبقى انوار البيت الذي يقترب من نهايات المئة سنة الثالثة متلألئة.