أنشئ “متحف دمشق الوطني” العام 1919 في “المدرسة العادلية الكبرى” التي تعود إلى القرن الثالث عشر، في منطقة “الصالحية” الشهيرة بحاراتها وبيوتها القديمة، على سفح جبل قاسيون. وكان هذا المتحف يومها في عهدة “المجمع العلمي العربي” الذي أداره ونظم شؤونه وأنفق عليه من موازنته حتى العام 1928، ثم صدر قرار باستقلاله إدارياً ومادياً. وأدّى ازدياد مقتنياته الأثرية، خلال السنوات التالية، إلى البحث عن بناء جديد يلائم المواصفات المتحفيّة الحديثة، ووقع خيار الحكومة السورية على زاوية من المرج الأخضر، على مقربة من “التكية السليمانية” التي بناها السلطان العثماني سليمان القانوني في منتصف القرن السادس عشر.
في هذه الزاوية، شيّدت الحكومة السورية في 1936، داراً متواضعة، ونقلت إليها ما جمعته من آثار تعود إلى ما بعد القرن الخامس قبل الميلاد، ووزعتها على جناحين، وهما “جناح الآثار اليونانية الرومانية”، و”جناح الآثار الإسلامية”. في المقابل، نقلت الحكومة إلى متحف حلب، الآثار العائدة إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد، واعتمدت في هذا التوزيع على فاصل تاريخي واضح. إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، أنشئت “مديرية الآثار العامة السورية” في 1945، وضُمّ متحف دمشق إليها، وعملت هذه المديرية على تنمية المتحف في عهد نهاية الانتداب الفرنسي وبداية الاستقلال. نشطت حركة الحفريات الأثرية في سوريا وتوسّعت بشكل كبير، ومع توسّعها، ازدادت مقتنيات المتحف الوطني، ما دفع إلى توسيع بنائه في المرج الأخضر.
في 1950، ضمّ المتحف قسماً خصّص للآثار العائدة إلى “قصر الحير” الذي شيّده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، في البادية السورية، في القرن الثامن. وفي 1953، ضمّ جناحاً خاصاً بالآثار الشرقية القديمة، ثم ضمّ في السنة التالية جناحاً خاصاً بالآثار الإسلامية، وذلك بعد صدور مرسوم اشتراعي يقضي باعتبار الصرح متحفاً للحضارة السورية منذ أقدم العصور إلى عصرنا الحاضر، وتقسيمه إلى أربعة أجنحة هي تباعاً: “جناح الآثار السورية الشرقية”، “جناح الآثار السورية في العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية”، “جناح الآثار العربية الإسلامية”، و”جناح الفنون الحديثة والمعاصرة”. هكذا نما “متحف دمشق الوطني” خلال عقدين من الزمن، وتضاعفت مساحته بسرعة مدهشة، وبات القسم المُشيد في 1936 يشكّل ربع مساحته فحسب.
يحوي “جناح الآثار السورية الشرقية” قطعاً أثرية استثنائية مصدرها مدينة “ماري” في تل حريري، وموقع “اوغاريت” في رأس شمرا، إضافة إلى مواقع أخرى، مثل عمريت وتل الصالحية وتل الخويرة. ويحوي “جناح العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية” مجموعات أثرية مصدرها مدن دورا أوروبوس وتدمر وفيليبوبوليس (الشهباء) وبصرى، إضافة إلى آثار متفرقة مصدرها دمشق واللاذقية وحمص وحماه وغيرها من المناطق السورية. أهم آثار دورا أوروبوس، كنيس يهودي كامل يعود إلى منتصف القرن الثالث، أعيد تشييده في متحف دمشق، ويتميز بلوحاته الجدارية الداخلية وهي سلسلة من اللوحات موزعة في أربعة صفوف متوازية. يدخل الزائر إلى هذا الكنيس من أحد بابَين. الأول، باب كبير كان مخصّصاً في الأصل للرجال. والثاني، باب صغير كان مخصصاً للنساء. وفقاً للتقليد المتبع في الحقبة الرومانية، تزيّن الصف الأسفل من الجداريات صور حيوانات ووجوه مجردة من أي دلائل أدبية. وتزيّن الصفوف الثلاث العلوية سلسلة من المشاهد التوراتية يحضر فيها عدد كبير من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وداود والياس. وتزين السقف سلسلة متوازية من الصور أُعيد تركيبها كما كانت قديماً فوق أسس بُنيت بمواد حديثة. أما أهم آثار تدمر، فقوامها “مدفن يرحاي” الذي يعود إلى 108، وقد أعيد إنشاؤه في المتحف. كما هو معروف، جعلت تدمر من مقابرها هياكل تعلن حلول الحياة الأبدية، هذه الحياة “الأخرى” التي تعيشها النفس في عالم الخلود. تجلى هذا الطابع في عشرات التماثيل التي أخرجت من أطلال تدمر، وغالبيتها تماثيل جنائزية اعتمدت في الأصل كشواهد للقبور التي صُنعت لأجلها. ويُعتبر “مدفن يرحاي” من أجمل نماذج هذا الفن الجنائزي الذي جمع بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي مميّز.
إلى جانب هذه الآثار، يضم “جناح العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية” مجموعة كبيرة من ألواح الفسيفساء الرومانية والبيزنطية، منها لوحة فريدة مصدرها الشهباء، تجسّد ثلاث فضائل ممثلة بثلاث نسوة، وهي بحسب أسمائها المدونة باليونانية فوق هاماتها: الولادة الحسنة، البر، والتقوى. تجلس امرأة الولادة في الوسط، وترفع يدها للتحية. إلى يسارها تقف امرأة البر، ويدها ترسم الحركة نفسها. إلى اليمين، تقف امرأة الحكمة أمام سلة ملأى بصكوك المعرفة، وهي تمد ذراعها لترسم بأصابعها الإشارة الخاصة بالفلاسفة. ويبدو ان المعنى الخفي للتأليف يقول ان الولادة الحسنة لا تكون في إنجاب العديد من الأطفال، بل في إنجاب أطفال صالحين تربّوا على الفلسفة والبر.
توزّعت القطع الإسلامية في قاعات متفرقة من المتحف قبل سنة 1950، وأعيد جمعها في جناح واسع مُخصص لها، بُني القسم الأكبر منه في 1953. يشكّل مدخل المتحف الرئيسي بداية لهذا الجناح، وقوامه واجهة قصر الحير الغربي الذي يختزل جمالية القصور التي شيّدها خلفاء بني أمية في بادية الشام، وقد اكتُشف في 1936، وأعيد إنشاؤه في المتحف حيث تحوّل إلى بوابة له، ويتألف من واجهة مزينة بالزخارف الجصية يحيطها برجان. يحوي الجناح الإسلامي قطعاً تعود إلى مختلف العهود المتعاقبة، منها قطع من الخزف العباسي مصدرها مدينة الرقة التي عرفت عصرها الذهبي في عهد هارون الرشيد حينما انتقل للإقامة فيها، فتوسع عمرانها، وشيّدت فيها القصور، وازدهرت تجارتها. وهناك قطع أخرى مملوكية مصدرها مدينة حماة تشهد على ازدهار فن التصوير في العالم الإسلامي، وخشبيات دمشقية من القرن الثالث عشر، منها ضريح الأميرة بختي خاتون حفيدة السلطان قلجأرسلان.
يوصف “متحف دمشق الوطني” بعميد المتاحف السورية وأكبرها وأشهرها، وهو بكل تأكيد مرجع توثيقي يختصر تاريخ هذه البلاد الثري. تحيط المتحف حديقة جميلة تضم مجموعة كبيرة من الأنصاب والتماثيل وتيجان الأعمدة الضخمة، وتشكل هذه الاستراحة ملحقاً لهذا الصرح، وسط العاصمة السورية، بين “جامعة دمشق” و”التكية السليمانية”، على مقربة من “جسر السيد الرئيس”.
المراجع والهوامش:
(1). الزيباوي (محمود)، متحف دمشق الوطني، موقع المدن، موقع المدن 29 تشرين الأول 2018
المراجع والهوامش:
(1). الزيباوي (محمود)، متحف دمشق الوطني، موقع المدن، موقع المدن 29 تشرين الأول 2018