شهادات ومذكرات
محمد رشيد رضا: وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري
وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري
جاء في جريدة (العهد الجديد) البيروتية الغرَّاء لمراسلها في دمشق بتاريخ 25 تشرين أول سنة 1928 ما نصه:
طويت صباح أمس صفحة ماجدة وضَّاءة من صفحات العلم والوطنية والإخلاص بوفاة سماحة العلامة الجليل الشيخ سليم أفندي البخاري والد الشهيد البطل المرحوم جلال الدين البخاري وصاحب المعالي الوطني الكريم نصوحي بك البخاري وزير الزراعة والتجارة ووزير المعارف سابقًا، فكان لِمَنْعَاهُ رنَّةُ حزنٍ أليمةٍ في البلاد السورية جمعاء التي بادرت للصلاة على روحه الطاهرة الكريمة صلاة الغائب.
والشيخ سليم أفندي البخاري علامة جليل من كبار علماء المسلمين، له ولعه الشديد بجمع آثار السلف الصالح واقتفاء أثر المخطوطات النادرة، والحرص عليها حرص البخيل على درهمه، كما أنه كان مثال النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل وصورة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وهو أحد أركان النهضتين الوطنية والعلمية والنافخ في بوق التجديد، والعالم الفذ على استئصال شأفة البدع والخرافات، وقطع السبيل على المرتزقة من رجال المشيخة الأغرار، حتى إنه رحمه الله سن قانونًا خاصًّا للتدريس في المساجد إبَّان وجوده في رئاسة العلماء حظر فيه القيام بالنصح والإرشاد وإلقاء الدروس الدينية في المساجد على غير العلماء المعروفين المشهود لهم برسوخ قدمهم في علوم الدين، ولكن هذا القانون قد درست معالمه وألقي في سلة المهملات بعد أن غادر سماحته منصب رئاسة العلماء مستقيلاً إثر ما جرى من تدخل في شئون الدين يوم أعلنت خلافة جلالة الحسين بن علي ملك الحجاز السابق فآثر رحمه الله اعتزال المنصب على أن يُقِرَّ هذا التدخل ويحول بين المسلمين وبين المبايعة كما أنه رحمه الله بايع وأمضى صك البيعة، وهذا دليل ناهض وحجة دامغة على مقدار صلابة سماحته في مبدئه.
وفوق هذا كله فلقد كان رحمه الله لغويًّا كبيرًا وعالمًا جليلاً في الأدب والمنطق والفلسفة الإسلامية، ومن أشد الناقمين على البدع والخرافات والداعي إلى اجتثاثها من أصولها؛ لتتنزه تعاليم الإسلام عما يحسبه الأغرار من الدين وما هو منه في شيء.
وكان مجلسه رحمه الله مجلس علم وأدب ويأبى أن يذكر في حضرته اللسان بسوء، وهو من أصحاب المغفور له العلامة الكبير الشيخ طاهر الجزائري.
وما ذاع النبأ في المدينة حتى تهافت الكبراء والوجهاء والعلماء والشباب والأساتذة إلى المنزل يواسون معالي نجله الكريم الأستاذ نصوحي بك البخاري وأخوانه، وعندما عرض جثمان الكريم على المغتسل دخل إلى الغرفة التي تجري فيها مراسم الاغتسال سماحة العلامة الجليل المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني فودَّعه وداعًا حارًّا استهل الدموع المدرارة وأثار العبرات الحارة.
وبعد أن تمت مراسم الاغتسال سارت الجنازة تتقدمها جنود الدرك ورجال الشرطة وجلاوزة البلدية فالعلماء يتقدمهم سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني فجثمان الراحل الكريم فمعالي نجله نصوحي بك وإخوانه فالكبراء والعظماء من رجال الوطنية والوجاهة والعلم ورئيس الوزراء الشيخ تاج الدين أفندي الحسني ووزير المعارف الأستاذ محمد بك كرد علي ومعتمد الدولة العربية ورجال الصحافة
والمحاماة والأطباء والموظفون وطلاب الجامعة السورية والمعاهد العلمية الكبرى وتلاميذ المدارس الأميرية والرسمية حتى بلغوا الجامع الأموي الكبير حيث صلى على الجثمان الكريم سماحة الأستاذ الشيخ بدر الدين وقبل الصلاة عاد رئيس الوزراء ووزير المعارف، ومن ثم سار موكب الجنازة بنظامه إلى مقبرة الدحداح حيث ووري الجثمان الكريم، وقد كانت الجنازة منقطعة النظير تدل على ما للأستاذ
الفقيد من منزلة سامية في النفوس، وقد رافق الجنازة على عجزه وكبر سنه سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني حتى المقبرة، رحمه الله رحمة واسعة وألهم الأمة المفجوعة بفقده وذويه الصبر وجزاهم الأجر، وإننا نتقدم لمعالي نجله الأستاذ نصوحي بك ولإخوانه الأكارم وذويه الأفاضل بواجبات التعزية، سقى الله جسده الطاهر وثراه الطيب صيب الرضوان.