مقالات
عمار الأتاسي: فيرناندو دي أراندا..معماريُّ دمشق
عمار الأتاسي- العربي الجديد
لا تنفكّ دمشق تقدّم لنا باستحقاق، لا ريب فيه، نموذج المدينة العالميّة، ففي تاريخها عديد القصص عن مسافرين ومارّة من علماء وفنانين وباحثين شدّوا الرحال نحوها، منهم من أقام بها بعضاً من وقتٍ ومنهم من آثر المكوث والعيش فيها حتّى توافيه منيّته فيدفن تحت ترابها، كحال الإسباني فيرناندو دي أراندا، أو فيرناندو محمّد دي أراندا ـ كما غدا اسمه لاحقاً بعد زواجه الثاني من السيّدة الدمشقية التركيّة صبرية حلمي ـ والذي عرف بـ”معماريّ دمشق”.
ولد دي أراندا في مدريد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تحديداً عام 1878 لعائلة إسبانية، انتقل للعيش مع أسرته في مدينة باريس وفيها درس الفنون واختص بالتصميم المعماري، ثم انتقل إلى مدينة إسطنبول التركيّة حيث عمل والده فيها في الفرقة الموسيقيّة السلطانية للدولة العثمانية، وفي فرقة السلطان عبد الحميد الثاني العسكرية، وتقلّد منصب جنرال فخري قبل أن يمنحه السلطان عبد الحميد الثاني منزلة باشا تكريماً له ولخدماته.
ولمّا جاء عزل السلطان من منصبه بانقلاب ثورة تركيا الفتاة عام 1909 قرّر الأب العودة إلى مدريد، في حين أن فيرناندو الذي كان يهوى دمشق أبى إلّا أن يرتحل إليها ويتّخذ منها مسكناً له بعد أن عرفها عبر زيارات عديدة لها مع والده كان آخرها عام 1903.
تزوّج فيرناندو أوّلاً من سيّدة سوريّة يونانيّة الأصل تدعى زنوبيا سيريكاكيس وأنجب منها ولدين، وشرع بابتداع تصاميم معماريّة بارزة كان من ضمنها فندق زنوبيا ذو الطراز المعماري الأوروبيّ الأنيق في مدينة تدمر الأثريّة، في وقتٍ لم تكن المدينة تُعرف كوجهة سياحية باستثناء بعض المسافرين والمستكشفين من ديبلوماسيّين وعملاء سريّين وجواسيس كانوا يصلونها بين حين وآخر أوائل القرن العشرين.
لكن المعماريّ الشاب سيضع بصمته في أكثر من سبعين بناءٍ آخر في دمشق منها الخاص كقصر ناظم باشا في المهاجرين ومنها العام، والأمثلة عليها وفيرة فيّاضة، كبناء السرايا الذي تشغله اليوم وزارة الداخليّة السوريّة، وبناء العابد في ساحة المرجة الذي حاكى طرازاً ألمانيّاً بطلب من أحمد عزت باشا العابد، وتحوّل من فندقٍ إلى مستشفى عسكريّ في الحرب العالميّة الأولى وعُقد فيه بعدها المؤتمر السوري الأول عام 1919 إذ يعدّ أول برلمان في بلاد الشام، البناء عينه اتّخذ الجنرال غورو منه مقرّاً للحملة الفرنسيّة في دمشق بعد دخول الانتداب إليها عام 1920.
صمّم دي أراندا أيضاً بناء المستشفى السلطاني الحميدي والذي أطلق عليه الدمشقيّون اسم مشفى الغرباء بسبب استقباله للفقراء والمحتاجين من كل حدبٍ وصوب، وأُطلق عليه في عهد الملك فيصل اسم المستشفى الوطني عام 1919 ثم شغلته لاحقاً المدرسة الطبيّة العربيّة.
يعود كذلك تصميم مدرسة الحقوق الأولى لـ”معماريّ دمشق” فيرناندو دي أراندا، وتشغله الآن وزارة السياحة السوريّة، بالإضافة إلى مبنى كليّة الحقوق في جامعة دمشق، ومبنى المصرف التجاري السوري الذي كان مبنى الأوقاف خلال الانتداب الفرنسي ويقع قرب القصر العدلي في دمشق، وهو أيضاً من صمّم مبنى هيئة مياه عين الفيجة الأنيق في شارع النصر بالقرب من مبنى البريد والهاتف حالياً، مميّزاً بطرازٍ عصري لا يخلو من النقوش والرموز الإسلاميّة، امتدّ تشييد هذا البناء في الفترة ما بين عامي 1937-1942، فشهد دي أراندا بذلك مرّة أخرى أحد أبرز التطوّرات في الحياة اليوميّة لسكّان دمشق في استجلاب مياه الشرب لمدينتهم من عين الفيجة في عهد حسين ناظم باشا.
مهندس محطة الحجاز
ولعلّ أبرز إنجازات معماريّ دمشق بلا منازع كان تصميم البناء الأثري الفريد لمحطّة الحجاز في المنطقة التي تحمل اليوم الاسم ذاته في دمشق (الحجاز)، بمساحةٍ بلغت 925 متراً مربّعاً شيّدت من طابقين طلب فيرناندو من أجلها إحضار الحجر والسيراميك من مدينة تالافيرا دي لا رينا قرب طليطلة أو توليدو اليوم في إسبانيا، واستخدم في تزيين داخلها خشباً داكناً وزجاجاً ملوّناً ليخلط بذلك عراقة الهندسة المدنية الأوروبيّة بفن الزخرفة الشرقيّة.
ترجع عظمة محطّة الحجاز إلى كون سكّة الحديد التي بُنيت من أجلها (بواسطة شركات ألمانيّة بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني عام 1900) عصباً أساسيّاً رَبطَ الشام بالحجاز، وتفرّع من ذاك العصب كذلك خطّ قطارٍ وصل دمشق ببصرى وحيفا وعكّا ونابلس. وتمثّلت أهميّتها بشكل أساسي في أنّها كانت تُقلُّ الحجاج والمسافرين والتجّار من دمشق والأناضول وشتّى أطراف الإمبراطوريّة العثمانية مروراً بحوران وعمّان وصولاً إلى المدينة المنوّرة في خمسةِ أيامٍ فقط بدل السفر التقليدي الذي كان يستغرق أربعين يوماً، فشكلت بذلك انعطافا بالغ الشأن.
إلّا أن هذا الانعطاف لم يدم أكثر من تسع سنوات فقط منذ إكمال الخط عام 1908 حيث دُمّرت سكّة الحديد هذه عام 1916 أثناء الحرب العالميّة الأولى على خلفيّة سقوط الدّولة العثمانية وتحديداً بأيدي من نفّذ “الثورة العربيّة الكبرى”، ليبقى بناء محطّة الحجاز ذاك صرحاً معزولاً، شاهداً بقناطره ونوافذه الملوّنة على سائر تلك المراحل المفصليّة في تاريخ الشام وبلادها. وقامت المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي في دمشق بتحويل المحطّة إلى متحف للقطارات البخارية القديمة عام 2008 احتفالاً بمرور مئة عامٍ على تسيير الرحلة الأولى بين دمشق والمدينة المنوّرة.
لم يقتصر دور معماريّ دمشق الإسباني على نواحي التصميم والعمارة وحسب، بل إنّه بعد أن أقام في سورية وتزوّج من سوريّة اعتنق الإسلام وأضحى واحداً من أهل المدينة، ذلك رشّحه لتقلّد مناصب ديبلوماسيّة رفيعة فشغل منصب القنصل الفخري الإسباني أثناء الحرب العالميّة الأولى. وكانت إسبانيا إحدى الدّول القليلة المحايدة في هذه الحرب، ممّا دفع معظم الدول الأوروبية إلى إناطتها بمهمّة حماية رعاياها في المشرق ووقع الاختيار على فيرناندو دي أراندا كقنصل فخري عام 1920 يسيّر شؤون رعايا المملكة المتّحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ورومانيا وروسيا وسويسرا والسويد والنمسا وصربيا وجمهورية الجبل الأسود وبلغاريا في دمشق. وقد قلّدته كل من المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا أوسمة الاستحقاق.
توفّي محمّد دي أراندا الإسباني المطلع، الشاميّ الختام في دمشق عام 1969 ودفن في ثراها في مقبرة (باب الصغير) تاركاً وراءه إبداعاته المعمارية.
وقد أصدر معهد ثيرفانتيس مجلّداً حول أعماله في العمارة يتناول دوره في رسم ملامح مدينة دمشق المعاصرة، بالإضافة إلى لوحة تحمل اسمه في معهد ثيرفانتيس في العاصمة السورية.