حسام الدين الدركزنلي- التاريخ السوري المعاصر
أحمد عزت باشا العابد
Ezzat Holo Paşa’nın Arap
ينتمي أحمد عزت العابد إلى عشيرة عربية تعرف بقبيلة “الموالي”، وهي ذات أصول عريقة تعود إلى قبيلة بكر بن وائل الحجازية، وكان مولده في دمشق سنة (1271 هـ = 1855م)، وبها نشأ وتعلم، وبدأ رحلته في طلب العلم بتلقي العلوم الشرعية واللغوية على عدد من كبار علماء عصره، مثل الشيخ أحمد عابدين، وعبد الرحمن الأسنوي وأحمد الشطي، ثم تعلم التركية والفرنسية والإنجليزية في مدرستي الآباء اللعازرين والبطريركية ببيروت، كما اتصل بالعالم اللغوي المعروف ناصيف اليازجي، وأخذ عنه علوم المنطق والبلاغة.
إصدار جريدة دمشق
وبعد أن أنهى تعليمه عين كاتبا في جهاز المخابرات العثمانية بسوريا، وتدرج في مناصبه حتى تولى منصب رئاسة قلم المخابرات سنة (1290هـ=1873م)، ثم عهدت إليه الحكومة بتحرير القسمين العربي والتركي في جريدة “سوريا” الرسمية لبراعته في فن الكتابة والإنشاء، لكن ذلك لم يشبع طموحه، فسعى في سنة (1296هـ= 1879م) لإصدار جريدة “دمشق” بتشجيع من والي سوريا “أحمد جودت باشا”، وهو من أعظم الرجال في الدولة العثمانية، ومن كبار مصلحيها، وفوق ذلك كان مؤرخا كبيرا.
وعلى صفحات هذه الجريدة نشر أحمد عزت العابد فصولا كثيرا أشار فيها إلى مآثر العرب وعلومهم وفضائلهم، كما دافع عن الدولة العثمانية التي تتعرض لحملات من التشهير المنظمة، غير أن كثرة الأعمال الموكلة إليه شغلته عن مواصلة الإشراف على الجريدة والكتابة فيها؛ الأمر الذي جعلها تتعثر في صدورها حتى توقفت تماما سنة (1315هـ=1887م).
في سلك القضاء
ثم نقل أحمد عزت إلى العمل في القضاء، فتولى رئاسة محكمة الحقوق بسوريا سنة (1296هـ= 1878م)، وبعدها بعام عين رئيسا لجميع المحاكم في سوريا ولبنان وفلسطين، نظرا لكفايته القانونية وقدرته على إصلاح المحاكم وتنظيم شئونها؛ الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة وجعله محل تقدير الدولة، فاستدعته مفتشا عاما لمحاكم ولاية سلانيك سنة (1312هـ= 1884م)، ثم نقل إلى عاصمة الخلافة رئيسا لمحكمة الاستئناف بها، ولم يمكث بهذا المنصب سوى شهرين حتى رقي رئيسا عاما لمحاكم التجارة الأهلية والمختلطة، وظل في منصبه ستة أعوام عين بعدها سنة ( 1317= 1891م) عضوا لدائرة التنظيمات في مجلس شورى الدولة.
في بلاط عبد الحميد
ولما بلغت شهرة “عزت العابد” وكفايته إلى أسماع السلطان عبد الحميد ضمه إلى معاونيه ومساعديه، وكان السلطان على غير ما يشاع عنه يقرب إليه أهل الكفاءة والخبرة، ويحيط نفسه بذوي القدرة والأمانة، وانضم “العابد” إلى بلاط عبد الحميد كاتبا خاصا له، وعهد إليه السلطان بعضوية اللجان المالية وغيرها، ولما وثق السلطان به قربه إليه وجعله موضع سره، وبلغ من توطد الصداقة بينهما أن السلطان عبد الحميد الثاني قال عنه: “الصديق الحميم الذي وجدته في النهاية”.
وفي أثناء الفترة التي لازم فيها “العابد” السلطان عبد الحميد، وهي مدة بلغت ثلاثة عشر عاما، قام بأعمال جليلة، حسبه أن يكون من بينها إشرافه على تنفيذ خط سكة حديد الحجاز، وإنشاء خط التلغراف بين أزمير وبنغازي، وبين دمشق والمدينة المنورة.
فكرة سكة حديد الحجاز
كان السلطان عبد الحميد الثاني يهدف من وراء إنشاء الخط الحديدي من دمشق إلى المدينة خدمة الحجاج بإيجاد وسيلة سفر عصرية يتوفر فيها السلامة والأمن، وفي الوقت نفسه دعم حركة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها للوقوف أمام الزحف الاستعماري الأوربي.
ويعزو بعض المؤرخين فكرة إنشاء خط سكة الحديد إلى “عزت العابد” وأن السلطان استحسن هذه الفكرة، وأيا ما كان الأمر فإن هذه الفكرة قد خرجت إلى حيز التنفيذ وإرادة السلطان وإيمانه بها، والذي أشرف على تنفيذها هو “أحمد عزت العابد”.
ولم تكن الدولة العثمانية تملك من الأموال ما يجعلها تمول مثل هذا المشروع الكبير فوجه عزت باشا العابد السكرتير الثاني للسلطان نداء إلى العالم الإسلامي شرح فيه الدافع الديني الذي ألهم السلطان تحقيق هذا الحلم الجميل، وأهاب بهم أن يتبرعوا بالمال إسهاما منهم في نفقات المشروع، ولقيت دعوته استجابة تلقائية من المسلمين في أنحاء العالم، وانهالت التبرعات على دار الخلافة.
وافتتح السلطان عبد الحميد التبرعات بمبلغ كبير، وكذلك فعل شاه إيران، وعباس حلمي خديوي مصر، وتألفت لجان في سائر البلدان الإسلامية لجمع التبرعات، وأصدر السلطان سنة (1318هـ = 1900م) قرارا يسند فيه الإشراف على تنفيذ إنشاء هذا الخط الحديدي إلى “أحمد عزت العابد”.
وقد بدئ في تنفيذ هذا الخط سنة (1318هـ = 1900م)، واستمر العمل فيه ثماني سنوات حتى وصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (24 من رجب 1226 هـ = 23 من أغسطس 1908م)، وبلغت تكاليفه الإجمالية آنذاك ثلاثة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، منها مليون من تبرعات ملوك المسلمين وعامتهم، استجابة للنداء الذي أطلقه “أحمد عزت العابد”.
عماده.. الجهد الذاتي
وعرف عن “عزت العابد” ميله إلى عدم الاقتراض من البنوك الأجنبية، ورغبته في إقامة المشروعات بالجهود الذاتية للدولة دون إثقال كاهلها بالقروض أو المبالغة في حساب التكاليف، فأنشأ عددا من خطوط التلغراف بين أزمير وبنغازي، وبين دمشق والمدنية المنورة بتكلفة اقتصادية، وأسهم هو بماله الخاص في تمويل خط التلغراف الذي ربط دمشق بالمدينة المنورة، فتبرع بأكثر أعمدة الخط من أخشاب أحراشه الخاصة، واستعان بالبعض الآخر مما تبرع به أهل الخير في دمشق.
وإضافة إلى ذلك شيد بالمدينة المنورة من ماله الخاص مستشفى لخمسين مريضا، ورباطا لإيواء خمسين عائلة، ومدرسة لمائتي طفل، وأوقف لها ما يكفي حاجتها ويضمن بقاءها واستمرارها.
عمل ثقافي
ولم تقتصر حياة العابد على المشاركة في الأعمال السياسية، والإشراف على المشروعات الكبرى، بل شارك في العمل الثقافي، وبخاصة في الترجمة، وكان يجيد عددا من اللغات، فنقل من التركية إلى العربية كتاب “حقوق الدول” لحسن فهمي باشا، والمجلد الأول من تاريخ جودت، وهذا الكتاب يقع في (12) مجلدا يتناول تاريخ الدولة العثمانية في الفترة التي تمتد من سنة (1118 هـ = 1774م) إلى سنة (1241هـ = 1826م)، كما نقل إلى التركية كتاب “الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية”.
انقلاب ومغادرة
وظل أحمد عزت العابد قريبا من السلطان عبد الحميد حتى حدث الانقلاب العثماني المشهور سنة (1326هـ = 1908م)، وترتب عليه خلع السلطان من منصبه ومغادرته البلاد. وعلى إثر ذلك غادر “العابد” تركيا، وسافر إلى أوربا وتنقل بين مدنها حتى استقر به المقام في القاهرة، وظل بها حتى وفاته في (24 من ربيع الأول 1343هـ = 15 من أكتوبر 1924م).
ويجدر بالذكر أن “عزت باشا العابد” هو والد محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية، تولى هذا المنصب سنة (1351هـ = 1932م)، وكان محبا للعلم والأدب، وأستاذا في تاريخ الأدب الفرنسي.
مصادر
زكي محمد مجاهد – الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية
* شمس الدين الرفاعي – تاريخ الصحافة السورية
* عبد العزيز محمد الشناوي – الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها
* فيليب دي طرازي – تاريخ الصحافة العربية