سلايدمقالاتموضوعات مختارة
عبير حيدر: من ينسى عبد الحميد السراج؟
عبير حيدر- صحيفة العرب اللندنية*
لم تسمع الأجيال الجديدة باسم عبد الحميد السراج، تحديدا في سوريا، إلا من أحاديث الذاكرة للآباء وربما الأجداد الذين عاصروا الزمن الذي تحكّم فيه برقاب الناس عبر ما سمي حينذاك ب «المكتب الثاني».
غاب عبد الحميد السراج منذ أيام، ابن مدينة حماه، عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عاما، مات في منفاه في القاهرة الذي استمر حوالي خمسين عاما بعيدا عن وطنه الأم سوريا، ككل الطغاة الذين يقضون حياتهم منكرين، غرباء، دون أن يجدوا أحدا من أبناء بلدهم يخرج في تشييعهم.
عبد الحميد السراج الحاكم الفعلي للإقليم الشمالي إبان الوحدة مع مصر(1958-1961)؛ حيث بسط نفوذه على كل مراكز القوة والقرارات في الإقليم، ما أدى إلى غضب الساخطين على الوحدة وانتشار الاحتقان الشعبي في كل مكان. فالسياسة التي اتبعها «السراج» وزيرا للداخلية أولا، ثم نائبا لرئيس الجمهورية، من قتل وتعذيب وملاحقة للمعارضين واتهامهم بالعمالة والتآمر على الوحدة، جعلت السوريين عموما يتململون من الوحدة ككل. حتى انتشرت في عهد «السراج» عبارة «كل مواطن خفير» التي كانت تعني بأن كل مواطن عليه التلصص على أخبار جيرانه ورفاقه وأصدقائه ونقلها إلى «المكتب الثاني» ليتكفل بدوره بإنزال العقاب الملائم وإخماد الأصوات. ومن هنا جاء لقب «السلطان الأحمر» تشبيهاً له بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي عرف بقسوته ودمويته في مذابح الأرمن.
مثلت حياة السراج لغزا محيرا بين المؤيدين لفترة حكمه وغالبيتهم من مناصري الوحدة مع مصر والتيار القومي العربي، حيث اعتبروه حام للوحدة المصرية- السورية رغم الأخطاء التي ارتكبت في عهده. ما جعل الناس يرون في «عبد الحميد السراج» بطلا قوميا من رموز الوحدة، كما أن قربه من «عبد الناصر» قرّبه إلى قلوب الناس، كأحد وجوه عشقهم لـ»عبد الناصر».
يذكر أحد القوميين العرب من فلسطينيي لبنان: «أن صورة عبد الحميد السراج كانت في فترة الستينيات تعلق في البيوت والمقاهي إلى جانب صور عبد الناصر». وفي الوقت نفسه، اعتبر المناهضون لـ»السراج»، أنّ شخصيته الاستبدادية كانت واحداً من أهم الأسباب لمعاداة فكرة الوحدة بين مصر وسوريا التي تجلت من خلال عبد الحميد السراج بحكم بوليسي قمعي اتبعه في سوريا، فقد غيبت السياسة وحرية الصحافة والأحزاب والحريات الفردية، وعم سوريا الخوف والترهيب بعد أن عاش السوريون مرحلة زاهية من الحرية السياسية والتعبير ما بعد الاستقلال. يتحدث المحامي والناشط السوري ميشيل شماس عن موت «السراج» بقوله: «نأمل أن يشكل موت هذا السفاح نهاية فعلية لهذا النظام الأمني الاستبدادي الذي أنشأه عبد الناصر وأخذ يكبر ويكبر حتى ضاقت به مصر وسوريا فامتد ليشمل جميع البلاد العربية من المحيط إلى الخليج، كالإخطبوط مستحدثا فروعا كثيرة له (كأمن الدولة، والأمن العسكري والسياسي والجوي والبحري، والأمن العام وأمن الرئيس والملك والأمير والسلطان)، حددت وظيفتها الرئيسية في الولاء المطلق للنُظم الحاكمة، وتسخير طاقات المجتمع البشرية والمادية، وجعلها في خدمة تلك النظم وتأمين استمراريتها في الحكم، وحمايتها من أي تحرك شعبي قد يستهدفها».
لم يسلم من تعذيب «السراج»، لا القوميين ولا الشيوعيين، فحين اغتيل القائد البعثي عدنان المالكي سنة 1955، كان السراج رئيسا للمخابرات وواحدا من المسؤولين الأمنيين الكبار في عهد الرئيس حسني الزعيم. وقد ترأس عمليات زج القوميين السوريين بالسجون وعلى رأسهم جولييت المير زوجة أنطون سعادة «مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي»، والتي سجنت لأكثر من عشر سنوات وأفرج عنها إثر إصابتها بأمراض مستعصية أثناء سجنها، وتم تبرئتها بعد ذلك. وقد شهد عهد «السراج» أيضاً اعتقال الشاعرين محمد الماغوط وأدونيس والزج بهما في السجن. وهل ينسى الشيوعيون اللبنانيون والسوريون والعرب عموما؛ الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، فرج الله الحلو، الذي قام جلاوزة السراج بتذويب جثمانه بالأسيد، ثم رمي الجسد المذاب في مياه نهر بردى. ويقدم لنا تاريخ هذا الطاغية أن أجهزة الاستخبارات التابعة له، أنها كانت وراء اغتيال «نسيب المتني» نقيب المحررين اللبنانيين الذي كان ضد التمديد لحكم الرئيس كميل شمعون سنة 1958، وكان الهدف من عملية الاغتيال بحسب الرواية التاريخية تأجيج الثورة التي كان يدعمها السراج والحركة الناصرية ضد حكم شمعون آنذاك.
لقد كان الانفصال عام 1961 هو نهاية الدور الأمني والسياسي لعبد الحميد السراج وغيابه عن المسرح السياسي إلى الأبد في الإقليمين المصري والسوري. فقد قبض عليه وأودع سجن المزة في دمشق، إلا أن جهاز المخابرات العامة المصرية دبّر عملية استخباراتية لتهريبه من السجن في دمشق، ثم ترحيله إلى القاهرة عبر بيروت، وقد أطلق على هذه العملية الاستخبارية آنذاك اسم «جمال».
من القصص الشعبية في ذاكرة السوريين التي تعبر عن الخوف والرعب الذي زرعه حكم «السراج» في نفوسهم، أنه في عام 1969 توفي «نوري» وهو أحد مخبري «السراج» في منطقة «مشتى الحلو» ولم يخرج إلا نفر قليل من رجال الضيعة في جنازته، ومنهم رجل ناهز عمره المائة وسبعة أعوام يدعى جبرا الليون، وكان يمشي متسترا بالمشيعين القلائل. فانتبه إليه رجل يسير بمحاذاته، فسأله مستفسراً: ليش عم تمشي هيك ياجدو جبرا.. شو خايف يشوفك حدا؟ فأجابه جبرا الليون: إي يا جدو خايف يشوفني نوري.. فاستغرب الرجل قائلا: نوري مات، وأنت تمشي في جنازته وبعدك بتخاف منو يا جدو؟ أجابه جبرا الليّون بدون تردد: ولك هلق نسيتو شو كان يعمل فينا نوري؟ وهلق أكيد إذا شافني رح يقلوا ل الله شو أخذتني ونسيت جبرا الليون».
في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 2013، ومن فيلا «السلام» حيث كان يعيش «السراج» في القاهرة، خرجت جنازته بقلة من المشيعين في لحظة تثور فيها الشعوب العربية على الطغاة الكبار. لم يثر رحيل هذا المستبد أحدا، فالسوريون لا يزالون مشغولين منذ عامين ونصف بثورتهم ومخاضها العسير ضد طغاة جدد لا يزالون يجثمون على قلوبهم، يحملون إرث السراج في الاستبداد والطغيان.
* تاريخ النشر في المصدر- الخميس 2013/10/10