لا شك أن الدافع الرئيسي الكامن وراء إنشاء سكك خط حديد الحجاز هو الطموح السياسي والعسكري، بالإضافة إلى الدافع الديني أيضاً. فإقامة خط بين إسطنبول ومكة المكرمة سيقلل من عناء السفر إلى شبه الجزيرة العربية خلال موسم الحج والأوقات الأخرى، حيث يكون أداة تقل الآلاف من الحجاج إلى الأراضي المقدسة لتأدية مناسكهم الدينية براحة واطمئنان.
وكما هو معروف أن الحجاج كانوا – من قبلُ- يأتون إلى الحرمين الشريفين مشاةَ وركباناً على ظهور الجمال والدواب، وكانت رحلتهم هذه تستمر شهرين ونيفاً يتحملون خلالها كل أنواع المعاناة والمشقة والتعب، إذ كانت الرحلة بين دمشق ومكة المكرمة تستغرق 40 يوماً كاملة ذهاباً على ظهور الجمال، وشهرين آخرين إياباً تحت وطأة ظروف قاسية من برد الشتاء القارس أو حرار الصيف الحارق، بالإضافة إلى غارات واعتداءات بعض البدو وقلة المدن والمناطق السكنية أثناء رحلتهم هذه.
كان عدد الحجاج قبل إنشاء خط حديد الحجاز لا يتجاوز عن80 ألف حاج، كما كان 2500-3000 من هذا العدد يسافر إلى الأراضي المقدسة عن طريق البر. وبعد إنشاء الخط ازداد العدد وأصبح السفر إلى الحرمين الشريفين أسهل بكثير من السابق، حيث قصرت مدة الرحلة التي كانت تستغرق شهرين وتنفس الحجاج الصعداء من المعاناة التي كانوا يواجهونها أثناء سفرهم هذا، وتمكنوا من اجتياز المسافة التي تبلغ 1200 كم في 72 ساعة، أي ثلاثة أيام فقط.
ولابد أن ننوه هنا إلى أن حركة القطار ومواقفه كانت منظمة حسب أوقات الصلوات الخمس، هذا وقد خصصت قاطرة من القاطرات للعبادة والصلاة أثناء السير، كما عين إمام يؤم بالمصلين، فبذلك تحولت تلك القاطرة إلى مسجد سيار يؤدي الحجاج فيه فرائضهم وواجباتهم الدينية.
لقد تم إنشاء وتفعيل خط حديد الحجاز – كما ذكرنا سابقاً- بتاريخ 1 أيلول 1908، مما ساعد في ازدياد عدد الحجاج القادمين من كافة أرجاء الأراضي العثمانية إلى 300 ألف حاج، وذلك حتى عام 1912، وأيضاً أدى تشغيل الخط هذا، إلى إزدياد النشاط التجاري وتوثيق الصلات التجارية بين المدن العثمانية، بالإضافة إلى وصول عدد الزائرين القادمين بنية الحج وغيرها إلى المدينة المنورة إلى حوالي 300 ألف زائر حتى عام 1914.
وفي هذا الصدد قامت الحكومة العثمانية ببناء العدد من المخافر (القصور) على مدى الخط لتأمين احتياجات الحجاج، من ماء وغذاء أثناء رحلتهم من جانب، ولحمايتهم من غارات البدو الذين يعيشون في الصحراء من جانب آخر. من هذه القصور على سبيل المثال قصر القطرانة وقصر الضبعة وقلعة الحسا.
ولكن رغم كل هذه الاحتياطات لم تستطع الدولة العثمانية منع غارات هؤلاء البدو بكل معنى الكلمة، إذ كان الحجاج يتعرضون في بعض الأحيان إلى مثل هذه الغارات. ولعل السبب الرئيسي الكامن وراءها، هو عدم الاستقرار في سياسة الإدارة والضعف العسكري في الدولة العثمانية. وقد كانت الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين في حقبة الاضمحلال والانهيار، الأمر الذي أدى بدوره إلى شلل بكل مناحي الحياة التجارية والزراعية والصحية والاقتصادية. وعلى أثر ذلك بدأت البلدات والقرى تخلو نتيجة هجرة أهاليها منها، ولكن البدو كانوا مستقرين في الصحارى منذ مئات السنين أو بالأحرى ظلوا ساسة أقاليم الصحراء منذ أن ولدتهم أماتهم.
ولا شك أن أهم خدمة قدمها خط حديد الحجاز كانت حمل “المحمل النبوي الشريف” أو “الصرة السلطانية”، إذ اعتاد سلاطين بني عثمان على إرسال الصرة مرفقة بالهدايا الثمينة إلى الأراضي المقدسة منذ تأسيس دولتهم، وبعد إنشاء الخط الحجازي أصبحت هذه الصرة ترسل في مدة أقصر وبطريقة أسهل إلى الأراضي المقدسة. وقد تغيرت طريقة إرسال الصرة السلطانية إلى أراضي الحجاز مع مرور العصور وتطور أداة النقل، فكانت رحلة قافلة الصرة – على سبيل المثال- حتى عام 1864 تتم عن طريق البر، ولكن في التواريخ اللاحقة أصبحت ترسل عن طريق البحر على متون الباخرات البخارية، حيث استمر استخدام الطريق البحري حتى عام 1908. وبعد إتمام مشروع سكة حديد الحجاز عام 1908 وتشغيل الخط، أصبحت رحلة الحجاج إلى الأراضي المقدسة مع الصرة السلطانية، تتم عن طريق السكك الحديدية الجديدة.
ومن المعروف أن الدولة العثمانية بدأت تنهار وتتفتت في مطلع القرن العشرين، مما جعل الدول الأوربية تصفها بـ “الرجل المريض”. إلا أن الدول العثمانية اعتبرت خط حديد الحجاز وسيلة هامة في تعزيز سلطة الدولة وجعل إقليم غرب الجزيرة العربية يعتمد على مركز سلطتها ويبدي ولاءه لها أكثر من ذي قبل، في حين أصبح من الممكن أن تصل القوات العسكرية العثمانية عبر خط الحجاز إلى أبعد نقطة داخل أراضي الجزيرة العربية بشكل سهل وطريقة سريعة.
ولعل إنشاء خط الحجاز كان أداة تؤيد وتعزز السياسة الإسلامية في أرجاء العالم كافة، إذ كان السلطان عبد الحميد الثاني- مع عدم اعتماده على الغربيين- يعرف حق المعرفة أن امتداد سكة حديدية حتى مكة المكرمة والمدينة المنورة، سيعيد له هيبته ويتعزز مكانته كخليفة للمسلمين في العالم الإسلامي عامة، وفي الجزيرة العربية خاصة، ثم أدرك أن هذه الفعاليات ستمكن العالم الإسلامي أيضا من استرداد مكانته المسلوبة منه في التوازن العالمي من جديد.
ولابد أن ننوه هنا أن الغرض الديني كان يكمن وراء سياسة عبد الحميد الثاني، لذلك فضل أن يستخدم صفة الخليفة بدلاً من السلطان، وأن يقدم نفسه كخليفة للمسلمين إلى العالم. فمن ثم أيد دون أي تردد، إنشاء سكة حديد الحجاز الحميدية التي ستمتد من دمشق إلى المدينة المنورة.
والحقيقة أن امتداد هذا الخط لعب دوراً مهماً – قبل الإنشاء وبعده- في سياسة ذلك العهد من حيث العلاقات الدولية، إذ مكن السلطان عبد الحميد الثاني من أن يقف أمام دول العالم أجمعها كخليفة للمسلمين وكأمير لهم، أو بعبارة أخرى، فإن تنفيذ مشروع خط الحجاز من قبل السلطان عبد الحميد الثاني، لعب دوراً كبيراً في جمع المسلمين تحت علم الدولة العثمانية العلية، وفي تعزيز نشاطاتهم تحت اسم الاتحاد الإسلامي في السياسة العالمية، كما لعب دوراً أساسياً في تخييب آمال الدول الإمبريالية التي طمحت دائماً في التهام الجزء الأكبر من الدولة العثمانية[1].
[1] هولاكو (متين)، الخط الحديدي الحجازي- المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد العثماني، ترجمة محمد طواش، دار النيل، القاهرة، صـ 19-20.