الشاعر جبرائيل دلال
الشاعر جبرائيل دلال من الأدباء والمفكرين الذين ساهموا في التأسيس لعصر النهضة وترسيخه في مدينة حلب من خلال أعمالهم الأدبية ونشاطاتهم الفكرية الداعية إلى إصلاح المجتمع وبناء نهضته وتحقيق تقدمه العلمي وحريته ومدنيته وذلك بعد جولاتهم في الغرب واطلاعهم على ثقافته الحديثة وتأثرهم بشكل خاص بأفكار الثورة الفرنسية وفلاسفتها.
– اعتُبر شهيد الكلمة الحرة بعد وفاته في السجن بسبب قصيدة كتبها.
حول شخصية “جبرائيل دلال” وسيرته الأدبية يتحدث المهندس والباحث “عبد الله حجار”:
ولد عام 1836من عائلة كريمة حيث كان بيت والده ملتقى رجال الفكر والأدب، فقد والده وهو في الحادية عشرة من العمر فقامت عمته بالإشراف على تربيته وتعليمه وقد كان من تلاميذ مكتب “نعوم بخاش” في “حي الجديدة” كما تلقى تعليماً إكليريكياً في “لبنان” وأتقن اللغتين الفرنسية والإيطالية إلى جانب التركية لغة الدولة والعربية لغة آبائه وأجداده-».
كان “جبرائيل” ذكياً جداً ويميل إلى العلوم ويتمتع بذاكرة قوية فقد كان صدره أشبه بخزانة للعلوم والفنون في عصر ساده الجهل والأمية، كما كان لطيف الشمائل خفيف الروح صحيح الانتقاد وفياً وذا تفكير حرّ وشديد الاعتزاز بالهوية الثقافية الحضارية العربية حفظ دواوين “المتنبي” و”صفي الدين الحلّي” و”مقامات الحريري” والكثير من مقدمة “ابن خلدون” والمعلقات السبع وقسماً كبيراً من القرآن الكريم فتكوّن لديه نتيجة لذلك خلفية أدبية فكرية رائعة جعلته يكتب وينظم في مختلف مواضيع الشعر.
سافر إلى استانبول إثر وفاة عمه الذي كان غنياً وبقي هناك خمسة أشهر أُعجب خلالها بعظمة المدينة وآثارها وقصورها وجوامعها كما تعرّف إلى شخصياتها.
وبعد تصفية التركة عاد إلى حلب ليتزوج بعد سبع سنوات من أجمل فتيات المدينة واسمها “سوسن” كريمة “فتح الله عجوري الحلبي” ثم عاد إلى استانبول ليبقى فيها سنة ونصفاً يُطلع فيها عروسه على مفاتن العاصمة ثم عاد إلى “حلب” وبعد فترة تاقت نفسه من جديد فزار كلاً من فرنسا وإيطاليا واسبانيا وهو يري زوجته روائع مدنها، ومن اسبانيا سافر إلى البرتغال بمهمة خاصة وقد حظي هناك بمقابلة الملك، وفي طريق العودة إلى وطنه أُصيبت زوجته وهو في مدينة مرسيليا الفرنسية بمرض عضال فتوفيت، ويُذكر عن جمالها المبهر أنّ الشاعر “جبرائيل” دُعي خلال إقامته في باريس إلى حفلة راقصة أقامها “نابليون الثالث” في “قصر فرساي” وقد افتتح الإمبراطور تلك الحفلة بمراقصتها.
لقد فُجع شاعرنا بوفاة زوجته الحبيبة وهو في الغربة ولم يطق العودة إلى حلب والوطن فذهب إلى باريس علّه ينسى ومنها إلى الجزائر ثم إلى بلجيكا ثم عاد الى باريس ليتعاقد في العام 1877 مع وزير المعارف كي يقوم بتحرير جريدة “الصدى” العربية لنشر رسالة الحكومة الفرنسية في المشرق والمغرب العربيين لكنه ترك العمل في الجريدة لعدم قدرته على كتابة ما يريد بل ما يراد وبإيعاز وزارة المعارف الفرنسية، وخلال وجوده في باريس كان يترجم لسفراء الحكومات العربية الذين يقصدونها وقد تعرّف على الوزير التونسي “خير الدين باشا” الذي جعله أمين سرّه ومترجم مراسلاته وعندما انتدب “خير الدين” ليكون الصدر الأعظم في استانبول في العام 1879 طلب من “جبرائيل دلال” أن يكون سكرتيره الخاص فأصبح لسان الصدر الأعظم الذي كلّفه بإصدار صحيفة “السلام”، وعندما ألغيت الصحيفة واستقال “خير الدين” استأذنه شاعرنا للعودة إلى “حلب” ولكنه تلقى رسالة في العام 1882 من رئيس المكتب الملكي في فيينا ليكون أستاذ اللغة العربية في العاصمة النمساوية فبقي في ذلك المنصب سنتين راسل خلالها الجرائد العربية الكبرى مثل /الجوائب/ في الآستانة و/الجنان/ في بيروت و/الأهرام/ في الإسكندرية و/مرآة الأحوال/ في لندن حيث كان كثير الإنتاج يكتب في السياسة والأدب وينظم الشعر ويوزع قصائد المدح حسب الطلب فقد مدح شاه “إيران” عند زيارته “باريس” كما كان يراسل رفيق صباه “فرنسيس فتح الله مراش” وشقيقه “عبد الله” و”رزق الله حسون” و”مريانا المراش”.
في العام 1884- وبعد سبعة عشر عاماً قضاها في أوروبا وآسيا وأفريقيا .
عاد إلى الوطن فجاء الجميع ينهلون من علمه وأدبه وخبرته فأصبح بيته كما في عهد أبيه منتدى للأدباء والشعراء لكن بعض المتزمتين الحاقدين لم ترق لهم المنزلة الرفيعة التي حظي بها أديبنا فأخذوا يبثون السموم عن أفكاره التقدمية ونزعاته التجديدية فهرب الى بيروت حيث استقبل بحفاوة تليق بمكانته وعلمه وهناك حنّ من جديد إلى استانبول فسافر إليها ليحلّ ضيفاً على صديقه “منيف باشا” وزير المعارف آنذاك وأراد صديقه أن يبعده عن الجو المشحون في العاصمة فأعاده إلى “حلب” حيث عيّنه بوظيفة متواضعة لا تليق بمكانته وأضاف إليها منصب أستاذ أول للغة الفرنسية في المكتب الإعدادي ليقوم بواجبه في مجال التعليم خير قيام».
وأخيراً وعن نهايته المفجعة في السجون العثمانية يقول “عبد الله حجار” وبه يختم :
قامت مجموعة من الحاقدين والحساد وفي مقدمتهم مأمور محاسبة معارف ولاية حلب بإثارة موضوع قصيدته “العرش والهيكل” التي سبق أن نشرها في باريس قبل حوالي ثلاثين عاماً وذلك لتحطيمه والقضاء عليه فبدأت الوشايات ..فصدرت إرادة سلطانية بعزله من منصبه وسجنه ومحاكمته، لم تجد المحكمة وسيلة للحكم عليه بعد مرور حوالي ثلاثين عاماً على نشر القصيدة إلاّ أنها لم تطلق سراحه في ظل استبداد السلطان “عبد الحميد” ولم يفلح أصدقاؤه في سعيهم لإصدار العفو عنه وهو يقاسي آلام السجن المريرة، وقد أثّر به ذلك وهو صاحب الشعور المرهف رغم الحرية التي أُعطيت له وإمكانية زيارته وقد نُصح بالتماس عفو السلطان بقصيدة استعطاف نظمها على مضض ليتخلص مما هو فيه تضمنت الكثير من التكلف وختمها بازدراء الوشاة لكنها لم تستدرّ عطف السلطان فظلّ في مرارة سجنه سنتين حتى لفظ أنفاسه- هناك من يقول إنه سُمّم
– وفي صباح الرابع والعشرين من شهر كانون الأول 1892 توفي “جبرائيل دلال” وله من العمر ستة وخمسون عاماً وقد نُقل من السجن إلى منزله ثمّ الى المقبرة ليُدفن بموكب صامت بين العيون الدامعة والقلوب الدامية.
وحول قصيدة /الهيكل والعرش/ التي ساقت “جبرائيل دلال” إلى حتفه يقول الشيخ المؤرخ “محمد راغب الطباخ” في كتابه /إعلام النبلاء بتاريخ “حلب” الشهباء/* ما يلي:
– أصل القصيدة هي للشاعر الفرنسي “فولتير” أبو الثورة الفرنسية المشهورة وتتألف من 152 بيتاً، وبعد ثلاثين عاماً من نشرها في باريس عاد إلى وطنه “حلب” فوشى به القسيسون إلى الحكومة بأنه من أنصار الحرية ومستشهدين بقصيدته تلك فأُخذ الرجل وسُجن وما زال في سجنه حتى مات شهيد الحرية، ويقول في القصيدة:
عسرت لك الأيام في تجريبها / وسرت بك الأوهام إذ تجري بها
فإلام تعرض ناسياً ذكر البلى / وعلام تغريك الحياة بطيبها
واللمة الشمطاء تنذر بالفنا / وتشيب صفو صفائنا بمشيبها
ولى الشباب وأخلقت أثوابه / واحسرتي لنضيرها وقشيبها».
وقد جمع ابن أخته الأديب البارع “قسطاكي أفندي الحمصي” ما وجده من آثاره الأدبية في كتاب دعاه /السحر الحلال في شعر الدلال/ -1903».
المؤرخ محمد راغب الطباخ تحدث عنه : من أبرز ما تركه من مؤلفات كتابه /إعلام النبلاء بتاريخ “حلب” الشهباء/، وللكتاب طبعتان :
– الأولى في العام 1923
– والثانية من منشورات دار القلم العربي في “حلب”- تحقيق “محمد كمال”(1).
(1) باسل عمر حريري – الموسوعة التاريخية لأعلام حلب / موقع eAleppo