مهند الكاطع – التاريخ السوري المعاصر
مقدمة
اندلعت الثورة السورية الكبرى ضدَّ قوات الاحتلال الفرنسي والتي قررت البقاء في سورية والتنصل من وعودها هي وبريطانيا اتجاه العرب، لتكرّس الاحتلال المباشر لبلدانهم وتقسيمها إلى دويلات على أسس أثنية وطائفية، الأمر الذي لم ترتضيه النخبة الوطنية منذ اللحظة الأولى، وبقيت تناضل من أجل الاستقلال منذُ اللحظات الأولى لإطلاق الجنرال غورو إنذاره ضدَّ حكومة الملك فيصل بضرورة مغادرة دمشق، الأمر الذي لم يتحقق للفرنسيين قبل يسطّر الشاب البطل يوسف العظمة ( وزير الدفاع في الحكومة العربية) أروع ملاحم البطولة في معركة ميسلون، والتي كانت محسومة النتيجة بالنسبة لهُ نظراً لعدم تكافئ القوى، لكنه كان يؤمن بأن موقفه هو تسطير لتاريخ أمة وعبر عن موقفه قائلاً ” لن يكتب التاريخ بأن الفرنسيين دخلوا دمشق دون مقاومة” .
الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين كانت علامة فارقة في تاريخ سورية الحديث ، كانت مميزة بأحداثها ورجالاتها وصدق أبناءها وسمو الهدف الذي قامت من أجله و ما واجهته من مصاعب وتحديات في سبيل عزة و وحدة هذا الوطن.
لن نغوص في ملفات الثورة الممتدة على ساحة الوطن السوري، فالحديث عن هنانو الذي لم ينل حقه من الذكر سيجعلنا نؤجل الحديث عن شخصيات أخرى، ولابد من ملاحظة أن المعلومات المتوفرة عن هنانو نادرة وشحيحة، ربما لسياسة اتبعتها انظمة الاستبداد عموماً في اسدال الستار على الشخصيات الوطنية صاحبة الأيادي البيضاء في تشكيل تاريخ سورية الحديث، وتحويلها لمجرد شخصيات هامشية يتم قراءة سطرين في كتب التاريخ عنها دون أي محاولات جدية لذكر الدور الذي لعبته تلك القامات في سبيل الوطن .
اختزل النظام المستبد ماضي الأوطان وحاضرها بشخص الزعيم المستبد والقائد الخالد وأغفال، و عمل بشكل منظم على هدم كل الشخصيات الوطنية من ذاكرة المواطن السوري على مدى ما يقارب النصف قرن ، فهدم الذاكرة الوطنية هو الجريمة الكبرى التي تغيبُ اليوم عن المشهد السوري إلا ما ندر، وكشف اللثام عن تاريخ تلك الشخصيات هو واجب وطني وأخلاقي يجب أن تداركه الأقلام الوطنية لتساهم في بناء مجتمع يستفيد من تجارب الماضي المليء بوقفات العزة والاعتزاز.
ترجمة ابراهيم هنانو ونسبه
هو ابراهيم بن سليمان آغا آل هنانو، وقد ذكر الغزي في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب آل هنوانو فقال: “آل هنانو وهي أسرة شهيرة متفرعة عن أصل قديم في حلب وجد منه عدة رجال أولي وجاهة واحترام منهم الآن في كفر تخاريم إبراهيم بك النابغة بالفصاحة والبطولة وتوقد الذهن وكرم السجايا وصدق العزيمة وحرية الضمير.”، يزعم البعض بأن بأنه يعود بأصوله إلى عشيرة كردية [1] وقد يكون هذا وارداً، لكنه أصوله العرقية لم تمنعه من أن يحوز على لقب (الزعيم العربي) ، وسيرته الوطنية تشير لاعتزازه بهويته وقوميته العربية وانتماءه السوري، فقد كان من مؤسسي الحكم العربي في الحقبة الفيصلية ومن أشد المدافعين عن هوية سورية ضدَّ مغالي القومية التركية الذين كانوا يدندنون في الصحف بأن حلب مدينة مليئة بالعناصر ذات الأصول التركية وأنها جزء من تركيا.
إن هذه النزعة والهوية لم تكن وليدة الصدفة عند ابراهيم هنانو، فالهوية هي نتاج تراكمات ثقافية مستمرة عبر التاريخ، وربما عائلة الهنانو من القدم والاندماج في المجتمع حتى باتت إحدى أهم دعائمه وأركانه.
ابراهيم هنانو .. النشأة
ولد ابراهيم هنانو سنة 1869م في بلدة (كفر تخاريم) الشامخة فوق سلسلة الجبال غربي مدينة حلب و التي كان والده سليمان آغا أحد أعيانها ويمتلك فيها وحولها الأراضي والبساتين والضيع، انهى هنانو دراسته الابتدائية في بلدته وانهى الثانوية في مدينة حلب ، و قد قرر في سن متأخرة نسبياً ” 27 عاماً” متابعة تحصيله الجامعي ، فقرر الذهاب إلى إستنبول من اجل ذلك ، كانت أسرته لا ترى سبباً لذهابه لأنه ليس بحاجة لوظيفة “الدولة” ، إلا أن هنانو أصر على الذهاب وقد وصل الآستانة دون علم والده آنذاك. انهى هنانو دراسة الحقوق وتم تعيينه في سنة 1904 قائمقاماً في إحدى أقضية اسطنبول آنذاك.
في سنة 1908 عاد لبلدته، حيث تم انتخابه عضو مجلس إدارة ولاية حلب (المجلس العمومي)، وقد تصدى هنانو عبر مقالاته منذ عام 1913 إلى غلاة الأتراك الذين تحدثوا عن تركمانية حلب وأن عروبتها غير ذات موضوع.
العلم الذي أظل العروبة والإسلام ستة قرون
برز أسم هنانو مجدداً مع بدء الثورة العربية الكبرى، كلفه الشريف ناصر القائد الميداني للجيش العربي بعد تحرير حلب في 30-10-1918 احتلال أنطاكية ورفع العلم العربي عليها وطرد بقايا الجيش العثماني منها، فدخل إليها مع 150 مقاتلاً من رجاله وشكل فيها مجلس إدارة مؤقتاً جعل على رأسه صبحي بركات الخالدي، وقد منع تمزيق العلم العثماني قائلاً: ” لا تنسوا أن هذا العلم قد أظل العروبة والإسلام لستة قرون…”، لكنه أصيب بخيبة أمل بعد قرار الحكومة العربية في دمشق إنزال العلم العربي عن انطاكية، ثم شارك في توطيد أركان الحكومة العربية في حلب مع رشيد بك (طليع) [2] ونبيه العظمة وتم تكليفه رئاسة ديوان ولاية حلب، حيث أسس الجناح الوطني فيها ما عرف باسم جمعية الدفاع الوطني التي أخذت بتشجيع من الوطنيين في دمشق بدعم الحركات الثورية المعادية للفرنسيين التي بدأت في 12-10-1919 ثم انتخب في 1-12- 1919 نائباً عن قضاء حارم للمشاركة في المؤتمر السوري الأول، وعين بعد ذلك رئيساً لغرفة الحاكم العام في حلب وكان عضو في جمعية “الفتاة” السرية.
زواجه بفتاة تركية
يجهل الكثيرون بأن زوجة ابراهيم هنانو كانت تركية، وكان قد تعرف عليها أثناء إقامته بالأستانة بعد تخرجه، ورزق منها بمولودة أسماها ” نباهت”، وفي عام 1913 ولدت له ابنه الثاني طارق، وكان حينها ابراهيم هنانو يعمل مستنطقاً في بلدته كفر تخاريم. وبعد ولادة ابنه طارق بخمسة عشر يوماً توفيت زوجة ابراهيم هنانو، ولم يتزوج بعدها ابداً.
ثورة هنانو “المتوكل على الله”
عندما قامت ثورة هنانو أطلق عليه الشعب “المتوكل على الله” وعرفت الثورة في شمال سورية بثورة المتوكل على الله، هذه الثورة لم تكن ردة فعل آنية جرى فيها هنانو وراء صرخات لا يعرف معانيها، أو طيش غير محسوب العواقب، كما لم ينقصه جاه أو مال ليسير في ركاب الوصوليين والمرتزقة واللصوص الذي غالباً ما يمتطون ظهر الثورة لتحقيق مصالح آنية على حساب المصلحة العامة، هذا مما يتخذه أعداء الثورة كوسيلة للطعن فيها، لذلك كان ابراهيم هنانو حازماً اتجاه أي خطأ، وكان يقود ثورة منظمة بكل ما تحمله العبارة من معنى، وأصبحَ هنانو وسيبقى عنواناً للمجد.
قبيل احتلال دمشق
لم ينتظر هنانو الأحداث السيئة دون أن يحسب لها حساب، فقد سعى ابراهيم هنانو للتجهيز للثورة قبل انطلاقتها وكان دأبه شراء السلاح وتجهيزه منذ عام 1919م.
كانت منطقتي حارم وانطاكية محتلتين من قبل الفرنسيين آنذاك، فجعل ابراهيم هنانو يجول في تلك المناطق ويدعم الثوار بالمال والسلاح، فباتوا يشنون الهجمات على الفرنسيين ويستهدفون خطوط اموالهم، بل و يؤدبون كل من يتعاون مع الاحتلال من ابناء الطابور الخامس، ويمنع جمع أي ضرائب وأموال لصالح الفرنسيين.
فجاء إنذار غورو في تموز 1920م الذي انذكر الحكومة العربية في دمشق، الأمر الذي جعل هنانو يحمل سلاحه في وجه جنرالات فرنسا المتجهين نحو دمشق وحلب ويوسع مجال الثورة وساحة نضالها.
هنانو يحرق بيته وممتلكاته
ابراهيم هنانو يدرك غدر الفرنسيين، ويدرك قوتهم، ولم يرضى أن يصبح ضحية ابتزازه بأي شيء، فقام على الفور بإشعال النار في منزله، وفي أدواته الزراعية، وفي طاحونة كان يملكها بإحدى قريتيه، لكي يقطع الطريق أمام الفرنسيين حول أي وسيلة ضغط عليه.
قتل العواينية ومعركة إسقاط
العوايني في لغة أهل الشام هو ابن البلد الذي يصبح جاسوساً على أهله وقومه للأعداء ويكون دليلاً لهم على الثوار والأحرار، وضعاف النفوس هؤلاء يتواجدون في كل زمان ومكان، ويقدمون خدمات جليلة لأعداء الوطن.
وتوافق ان يزور هنانو مناطق انطاكية للاطلاع على حال الثوار، ويقرر الاجتماع في قرية (إسقاط) بهم، وقد التحق اثنان من كبار المجاهدين الثوار بهنانو، وهم الشيخ يوسف السعدون من انطاكية ومعه اربعمائة مقاتل، والمجاهد نجيب عويد.
وفي أوائل ايلول من سنة 1920م قرر الثوار الاجتماع بهنانو في قرية إسقاط، وكان عددهم نحو الخمسون ثائراً، ووصل الخبر لمختار القرية الذي ابرق مع ابنه رسالة للفرنسيين الذين يمتلكون حامية في حارم يعلمهم بوجود الثوار في القرية.
وبالفعل وصلت الحامية مع خيوط الفجر للقرية، وكان الثوار قد توزعوا للنوع في بيوت القرية، ولحسن الحظ أن إحدى نساء القرية قد لحظت الفرنسيون عند مشارف القرية فنبهت الثوار الذين استفاقوا على تلك المباغتة فاشتعلت معركة دامت لساعتين خسر فيها الثوار ثلاثة من رجالاتهم، بينما خلف الفرنسيون أكثر من خمسة وثلاثين قتيلاً بينهم رئيس الحامية التي وجدت رسالة المختار في جيبه، فجيء به وبأبنه وتم اعدامهم في الحال.
الأتراك يمدون الثورة بالسلاح
كانت المعركة التي حدثت في إسقاط رغم صغر حجمها ذات أهمية كبيرة على ابناء الشعب السوري، فهذا الانتصار منحهم الأمل بالقدرة على مواجهة المحتل، كيف لا وهنانو يقودها.
بدوره وصل هنانو إلى الجانب التركي في الشمال وألتقى بأحد القادة الأتراك (صلاح الدين عادل بك) قائد الفيلق الثاني التركي، الذي وافق على مد ثورة العرب بالسلاح ضد المحتل الفرنسي، خاصة وأن الاتراك يقاتلون ضد الفرنسيين ايضاً على كيليكيا. فمعركة في الجانب السوري ستخفف الضغط عن جبهة كيليكيا.
لم يكتفي الاتراك بتقديم السلاح، بل ارسلوا قوة تركية بضباطها وجنودها ووضعوها تحت إمرة ابراهيم هنانو، وهنا رفع هنانو في معسكره العلم التركي إلى جانب العلم العربي، الأمر الذي كاد أن يمزق العلاقة بينه وبين رفيق دربه نجيب عويد لولا أن باقي الثوار اقنعوا نجيب بصحة تصرف هنانو مع وجود ضباط وجنود اتراك إلى جانبه، فكثر السلاح وكثر الثوار وتوالت الانتصارات وبدأ الخناق يضيق على الفرنسيين الذين بدأوا يعترفون بأنهم يواجهون قوة عسكرية منظمة وليس شرذمة قطاع طرق وعصابات!
القصير .. تخاريم.. جبل الزاوية
كانت القوات المقاتلة تحت قيادة ابراهيم هنانو مقسمة إلى ثلاثة مناطق:
1- المنطقة الأولى: وثورتها ما بين نهر العاصي والبحر، تتوسطها انطاكية، ويقود ثورتها المجاهد يوسف السعدون من أهالي قرية (القصير) من أعمال انطاكية.
2- المنطقة الثانية: وثورتها في القطاع الذي يتوسطه كفر تخاريم بلدة هنانو، ويقود ثورتها المجاهد نجيب عويد ابن بلدة هنانو.
3- المنطقة الثالثة: وثورتها في جبل الزاوية، ويقود ثورتها المجاهد مصطفى الحاج حسين من أهالي جبل الزاوية. وقطاعها ممتد من إدلب وحتى حماة.
تنظيم إداري إلى جانب المقاومة العسكرية
كانت الثورة في مناطق سيطرة الثوار منظمة عسكرياً وإدارياً ايضاً، فكانت الضرائب تجمع بشكل منظم، يدفع منها رواتب للمقاتلين وفق الرتبة العسكرية ولا تترك المجال مفتوحاً للاجتهاد، أو لسلب أموال الناس لتغطية المصاريف، او الاعتماد على تمويل خارجي بشروط الاحتلال، بل كانت الامور تتم بالاعتماد على الموارد المتاحة مع رقابة صارمة على أي انتهاك او اخلال بالأمن وأموال الناس.
صرامة القوانين ومحاكمة الثوار
كما قلنا بأن القوانين في مناطق الثورة كانت صارمة، ولا تسمح باستغلال سلاح رفع من اجل الثورة ضد المحتل والمستبد لأن يستخدم لنهب وسلب أموال الناس والاعتداء على دماءهم. ويذكر أن هناك اثنين من الثوار لحقوا برجل من سلقين يقود بقرته بغية استلابها وكان ذلك في بداية الثورة، فلجأ الرجل إلى قريته هرباً منهما، فتتبعاه واطلقا النار فقتلا اثنين من أهل القرية، ولم يكترثا بالأمر وعادا وكأن شيئاً لم يكن.
فلما علم مجلس الثورة بالحادث قرر محاكمتهما، وصدر الحكم بإعدامهما رمياً بالرصاص، فتم التنفيذ بهما. ويختلف هذا عن المجالس التي بلغت اعدادها اليوم بالمئات وتدعي انها تنتمي او تمثل الثورة السورية، والتي اساءت اكثر مما خدمت الثورة بالمجمل.
ورقة الأقليات وإعدام المعتدي
الورقة التي كانت فرنسة تشهرها في موضوع الأقليات كانت الورقة المسيحية، وذلك بدءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وحدث أن هاجم (البكاباشي عاصم بك) قائد القوة التركية العاملة تحت إمرة هنانو قرية “الصقيلبية” المسيحية بالقنابل قرب حماة، ثم تم نهب القرية، فاستغل الفرنسيون هذه الحادثة المنكرة للإساءة للثورة وجميع الثوار، فقرر نجيب عويد على الفور إعدام القائد التركي دون أن ينظر لأي نتائج أخرى، فالحفاظ على الوجه النقي للثورة اهم من أي شيء آخر.
مئة وسبعة عشر معركة خاضها الزعيم
ما لا يعلمه الكثيرون الذين يرون في أنفسهم اليوم قادة للثورة بمجرد أنهم قالوا انهم ضدّ النظام، بأن هنانو استحق لقب زعيم الثورة بجدارة بعد تعرضه لمخاطر الموت في سبيل الثورة لعشرات المرات، فقد بلغ عدد المعارك التي خاضها هنانو أكثر من مئة وسبعة عشر معركة عسكرية خلال تاريخ نضاله.
أريحا والراية البيضاء
من طرائف ما حدث في اريحا هي الحملة الفرنسية المؤلفة من اكثر من الف جندي والتي هاجمتها بعد ان تحصن الثوار في الجبل، فنزل الثوار لمقارعة الفرنسيين، وكانت المدفعية الفرنسية والطائرات اشتركت في القصف، فرفع أهل اريحا الرايات البيضاء (إشارة للاستسلام) فكان أن اعتقد الثوار بان الفرنسيين يستسلمون لهم، وكذلك اعتقد الفرنسيون، ولما التحم الفريقان وادرك المسألة سارعوا للحراب والاسلحة الخفيفة، فكان أن أسر الثوار اكثر من مئة وخمسون اسيراً وضابطاً وكذلك فعل الفرنسيون، فحدثت مفاوضات بين الطرفين اطلق فيها سراح الاسرى بعد ان عاملهم هنانو معاملة جيدة فعظم ذلك في عيون الفرنسيين.
تخلي الأتراك عن الثورة
تغير الموقف التركي بعد الاتفاق الذي جرى بينهم وبين الفرنسيين في كيليكا من موقف داعم للثورة، إلى موقف مساعد للفرنسيين إلى إخمادها، فامتنعت عن بيع السلاح للثوار وامدادهم بها، وتوافدت الحاميات الفرنسية المنتشرة في كيليكيا والاسكندرون لدعم الجيش الفرنسي في قمع الثورة في حلب وريفها.
إخماد الثورة والقبض على هنانو
في ظل هذه المعطيات قرر ابراهيم هنانو في 12 تموز 1921م ان يغادر جبل الزاوية بصحبة 55 جندياً وضابطاً اربعين وانسحبوا باتجاه “السلمية” حيث أعد لهم الفرنسيين كميناً، أستطاع ان ينجو فيما سقط 4 من رفاقه في الأسر فأعدموا على الفور، واتجه جنوباً نحو البادية يتعقبه فرنسيون وبعض الادلاء الطامعين في الجوائز التي رصدت من أجل رأسه، وصل ونفذ من شباكهم ووصل عمان حيث استقبله الامير عبد الله ابن الحسين وآواه، ثم غادر في 10 آب الأردن لزيارة القدس، وهناك كان الفرنسيون قد عقدوا مع القائد الانكليزي في فلسطين باتفاقية لتبادل المجرمين وكانت تهدف لتسليم هنانو، وهذا ما حصل في ظهيرة 13 آب 1921 أمام فندق القدس محل إقامة هنانو، إذ قدمت سيارة انكليزية يرأسها ضابط قام باعتقال هنانو وايداعه السجن!
خبر اعتقال هنانو هزَّ الشارع العربي في فلسطين وضفاف الاردن، فانتفضوا وهاجموا القائد الانكليزي في القدس، واحتج عبد الله بن الحسين امام الانكليز، فاسرع الانكليز بإرساله مخفوراً إلى بيروت ثم إلى حلب لتسليمه للفرنسيين لتجنب تفاقم الاوضاع لديها.
هنانو وسجن خان استنبول
هكذا كان يعرف السجن العسكري في حلب الذي تم إيداع هنانو فيه، وكان قد وصله مغلولاً بالسلاسل، دون ان يهتز له جفن، وهو بكامل عنفوانه وصموده.
كان النائب العسكري آنذاك يدعى ” الكابتن استاك” وقد طلب لهنانو اختيار محامي للدفاع عنه، وبنهفته رد هنانو على القائد محلفاً اياه “بشرفه العسكري” لو انه مكانه فمن كان سيختار؟ فاجابه الكابتن بانه سيختار الصقال، وكان فتح الله الصقال محامياً شاباً لم يتجاوز عمره 27 عاماً وقتها.
وافق هنانو واجتمع في زنزاته بالشاب المحامي الذي سمع قضية نضال هذا البطل في سبيل الوطن. وادرك الشاب بذكائه الفائق وما يستطيع ان يخدم قضية موكله عدة ثغرات امام الخصم والحكم، قد تنفع في انقاذ موكله، فهو ليس مجرم كما يصفه الفرنسيون، بل طرف محارب عقد مع الفرنسيين هدنتين وتبادل معهم الأسرى.
الصقال كان قد درس المحاماة في الجامعة الفرنسية في القاهرة وامتحن في فرنسا ذاتها، ومن أبرع المحامين في عصره.
محاكمة هنانو واحتشاد الجماهير
كان اليوم الأول في محاكمة هنانو في يوم الاربعاء الخامس عشر من شهر آذار 1922م، في مبنى (السراي العتيقة) شمالي قلعة حلب.
احتشدت الجماهير من كل حدب وصوب، على جانبي الطريق المؤدية للسراي، وفي مدخل السراي وفي قاعة المحكمة، واكتظت الجماهير حتى توزع الجنود السنغاليون على اطراف الطريق منعاً لأي طارئ. فكان موقفاً مهيباً وحراكاً جماهيرياً له دوافعه الوطنية الكامنة.
بدأت المحكمة التي ترأسها خمسة من الضباط العسكريين، وكان رئيس المحكمة من أشد الحانقين على هنانو الذي صرح بانه يرغب بإعدام هنانو الأمر الذي لم يتقبله احد الاعضاء وهو الكابتن لوكلير، الامر الذي وصفه الصقال في مذكراته بأنه تعبير عن عدالة والتحلي بالوجدان المسلكي القضائي.
مدافعات الصقال
تضمنت مدافعة الصقال مدافعتين ابتدائيتين في عدم صلاحية المحكمة العسكرية في محاكمة هنانو وعدم شرعية وقانونية القبض عليه في فسلطين وتضمنت النقاط التالية:
1-أن هنانو قام بثورته، مطالباً بحرية بلاده، والمطالبة بالحرية لا تعد جرماً بل اعترفت به الدول الكبرى، منها امريكا بلسان رئيسها ولسن.
2-ان السلطة العسكرية الفرنسية نفسها، اعترفت بأن هنانو ورجاله يشكلون طرفاً محارباً.
3-أن هنانو قابل الجنرال جوبو، قائد الحملة الفرنسية ضد الثورة السورية ليتفق معه على شروط الهدنة.
4- ان السلطة العسكرية الفرنسية، عقدت مع هنانو اتفاقين لأجراء هدنتين.
5-ان السلطات العسكرية الفرنسية اتفقت مع هنانو، على تبادل الاسرى.
6-ان القبض على هنانو في فلسطين وتسليمه للفرنسيين يخالف القانون الدولي.
هنانو يواجه التهم السبعة
وجهت لهنانو سبعة تهم، تمثلت فيما يلي:
1-تشكيل عصابة من الأشقياء ( وعليها استندت باقي التهم)
2-تهمة قتل مختار قرية اسقاط وابنه غندور المسؤولين عن ابلاغ الحامية الفرنسية عن وجود الثوار و التي قام بها نجيب عويد واعتبر هنانو مسؤولاً عنها.
3-تهمة قتل احمد كردية المتهم بالتجسس وايضاً اعتبرت النيابة هنانو شريكاً فيها.
4- نهب قرية سرمين اثناء احدى المعارك دون ان تعرف هوية السالبين.
5- صادر القائد التركي عاصم بعض العربات قرب قرية تفتناز وكانت تقل مؤونة وخرافاً للفرنسيين.
6- ادعى مختار قرية كونلي ان نجيب عويد هدد بقتله ونسف قريته اذا استمر بالتعاون مع الفرنسيين.
7- قلع الثوار لبعض قضبان سكة الحديد بين بيروت وحلب لقطع الامداد عن الجيش الفرنسي.
وكان لذكاء ابراهيم هنانو وجرأته دور هام في مساعدة المحامي الذي ثابر وهو يدافع عنه، ولعل من المهم أن نورد بعض ما حصل في قاعة المحكمة بين رئيس المحكمة وهنانو:
رئيس المحكمة: ان القانون الفرنسي يمنحك الحق التام في الدفاع عن نفسك، وها انت اليوم متهم بالاشتراك مع عصابات الاشقياء، وقد كنت ترأسهم وتدير عملياتهم.
فأجاب هنانو: انني لا أعد مجرماً، لأن أمرنا سياسي صرف، أما غايتنا من تشكيل العصابات، فلم تكن بقصد الفتك والنهب، وإلا لاجتاحت هذه العصابات واتت على من فيها من الاخضر واليابس، و لقاومنا الشعب وسحقنا سحقاً، فقواتنا إذن مؤلفة من أفراد الشعب، صاحب الحق والسلطان. انني متهم سياسي، ولو كنت مجرماً عادياً كما تقولون، لما فاوضني ممثلكم الجنرال جوبو، بشأن عقد هدنة وتبادل للأسرى، ولما وقعت معي انقرة التي تعترفون بها اتفاقية، لان الحكومتين الفرنسية والتركية أسمى واجل من ان تتنازلا لمفاوضة مجرم شقي. نحن لم نعمد للوسائل الحربية إلا للدفاع عن انفسنا، أنا ثائر سياسي، ادافع عن وطني، وقد جاهرت وسأجاهر بانني اتبرأ من كل مجرم سفاك.
رئيس المحكمة: إذن انت تتنصل من مسؤولياتك؟
هنانو: أن الرجل الذي قاوم الانتداب الفرنسي، لن يتنصل من مسئولية تعود تبعتها عليه.
الرئيس: من اضطرك ان تحارب؟
هنانو: عندما أهاجم، اغدوا مضطراً لأن ادافع عن نفسي.
الرئيس: لو بقيت آمنا مطمئناً في منزلك، لما حدث ما حدث ولما وقفت هذا الموقف
هنانو: هذا اجتهاد خاص، ولا يلام المرء على اجتهاده.
شهود الدفاع عن هنانو
من الأشخاص الذين شهدوا لصالح هنانو وشهدوا بوطنيته شخصيات هامة ومنها:
فاخر الجابري، سعد الله الجابري [5] ، الدكتور عبد الرحمن الكيالي، شاكر نعمت الشعباني، احمد المدرس، الشيخ عبد الوهاب طلس، الشيخ كامل الغزي، عبد الوهاب ميسر، الاستاذ راشد المرعشي وغيرهم.
ومن طرائف ما حدث اثناء الاستماع لشهود الدفاع ان رئيس المحكمة سأل أحمد المدرس إذا ما كان يحب فرنسا ام لا، فأجابه المدرس: احبها على قدر الامكان، فاطلق الجمهور ضحكة طويلة اغضبت الرئيس الذي هدد بأخلاء مقاعد المحكمة من الحضور.
النائب العام يطالب بإعدام هنانو
في اليوم السابع من المحكمة، قرأ المدعي العام مطاعته المطولة وختمها بالقول:
” لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبعة، لطلبت اعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً، ويؤسفني ان اطلب اعدامه، ليكون عبرة لغيره”.
وجاء دور الدفاع الذي استبسل لأكثر من اربع ساعات متواصلة في نفي التهم المنسوبة لموكله، ضارباً الامثلة على مقاومة الفرنسيين للغزاة في أرضهم، ومعيداً الحجج القانونية المستندة للقانون الفرنسي التي تنفي الجرائم.
المحكمة تصدر حكمها
بعد انتهاء مرافعات النائب العام والدفاع، دخل اعضاء هيئة المحكمة للمداولة، واستمرت المداولة لساعتين، فخرج الجمع والجماهير متلهفة ومشدودة الاعصاب لمعرفة النتيجة، وكان على رئيس المحكمة ان يتلوا تسعين سؤالاً على الهيئة للتصويت بنعم أو لا، والسؤال الأول كان هل ابراهيم هنانو مسؤول عن تشكيل عصابة من الأشقياء؟ وبعد الانتهاء من الأسئلة تجمع الاجابات وتكون النتيجة هي للأغلبية نعم أو لا.
ولما كان التصويت على السؤال الأول هو (لا) بأغلبية ثلاثة اعضاء، تنفس الدفاع والحضور الصعداء. ثم توالت الاجابات التي غلب عليها النفي، بعدها تلى رئيس المحكمة حكم البراءة، فدوى التصفيق الحاد في القاعة، وقد قاربت الساعة على التاسعة مساءً وتم تقدير الحشود بأكثر من ثلاثين ألف شخص.
اطلق سراح هنانو على الفور، وكان بانتظاره عربة يجرها حصانين، وما كاد هو ومحاميه يصعدون العربة حتى هجمت الجماهير على العربة، وحلت الحصانين وبدأت بجر العربة، وصود زغردة النساء يسمع طيلة الطريق الممتد من السجن إلى الدار، وكانت النسوة ترمي العربة من اسطح الدور بماء الزهر وعطر الورد.
بعيد المحاكمة ، انهت المحكمة الفرنسية مهمة ثلاثة من اعضاء المحكمة الذين كان لهم الدور في الحكم لصالح هنانو وعادوا قافلين إلى ديارهم.
المجلس التأسيسي سنة 1928
أفتتح المجلس التأسيسي جلسته الأولى في حزيران 1928 في الوقت الذي كانت لجنة الانتداب تناقش في جنيف موضوع الانتداب الفرنسي طويل الأمد على سورية، وقد قررت الكتلة الوطنية خوض الانتخابات بأسم الكتلة الوطنية، ففازت فوزاً كاسحاً، وانتخب هاشم الآتاسي رئيساً للجمعية التأسيسية السورية التي بدأت في 9 حزيران 1928 اعمالها لوضع الدستور بعد ان شكلت لجنة لذلك من 28 عضواً وعلى رأسهم ابراهيم هنانو، إضافة إلى أسماء أخرى مهمة هي (عبد الرحمن الكيالي، سعد الله الجابري، عبد القادر سرميني، فائز الخوري، مظهر إرسلان، حسني البرزاي، لطفي الحفار، ياسين الطبال، لطيف غنيمة، احسان الشعريني، صبري فرح، الحاج فاضل العبود، محمد آل يحيى، فوزي الأصفري، عارف الجزار، حكمت الحراكي، اسماعيل الحريري، محمد خير عقيل، سعيد الغزي، الامير مجحم [3] ، يوسف لينيادو، نيقولا جانحي). بعض هذه الأسماء حل بمكان أسماء منتخبة في الجلسة الرئيسية.
ومن الأمور المهمة التي حدثت أن جميل ابراهيم باشا وقع مضبطة من 57 شخص من أعضاء المجلس التأسيسي يدعون من خلالها لانتخاب ابراهيم هنانو رئيساً للجمهورية. الأمر الذي استعدى تاج الدين الحسيني ان يسعى لتوقيع مضبطة مضادة لانتخابه رئيساً للجمهورية، مما أدى إلى انقسام بين اعضاء المجلس التأسيسي نالت الكتلة الوطنية نصيباً، فقد اعتبر اعضاء الكتلة بأن تاج الدين الحسيني خرج عن الخط الوطني ورغبة الأغلبية، بينما اعتبر تاج الدين الحسيني بأن اعضاء الكتلة تآمروا عليه لمنعه للوصول لسدة الحكم، وقد كان الحسيني شخصاً مرغوب فرنسياً وكان حينها يشغل منصب رئاسة الجمهورية “بالتعيين الفرنسي” بصفة مؤقتة ، فتمد تمديد مدة رئاسيته لفترة ثانية مؤقتة استمرت حتى 19 تشرين الثاني 1931. ومن بين الذين ايدوا تاج الدين الحسيني آنذاك ( البارودي، الغزي ، البرازي).
ولم يفت الحدث الصحف الموالية للحسيني التي كانت قد نشرت بعض الصور الكاريكاتورية لإبراهيم هنانو زاعمة انها لتصوير تهديد اطلقه هنانو في المجلس النيابي. كما كانت صحيفة الأهالي [4] المقربة من الفرنسيين والمدعومة منهم قد تهجمت على هنانو في فترة صياغة الدستور و اتهمته بأنه المسؤول عن الضغط على لجنة الدستور التي نزلت عند رغبته بأن تكون المادة الثالثة للدستور تنص على شكل الحكومة وتجعلها “جمهورية نيابية دين رئيسها الإسلام” وليس بناء على رغبة الجماهير الذين يرغبون بأن تكون سورية ملكية.
ابراهيم هنانو رئيس اول لجنة تضع الدستور السوري
اعلن عن اول دستور سوري تضمن 115 مادة، وكان ابراهيم هنانو يرأس لجنة صياغة الدستور، وقد حددت المادة الأخيرة من الدستور مدة ولاية رئيس الجمهورية المنتخب من قبل الجمعية التأسيسية بسنتين فقط، فيما اشتملت المواد الأخرى على مواد دستورية وسيادية هامة لم ترق للفرنسيين، ومن أهمها:
المادة 1: سورية دولة مستقلة ذات سيادة ولا يجوز التنازل عن شيء من أراضيها.
المادة 2: البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية، وحدة سياسية لا تتجزء ولا عبرة بكل تجزئة طرأت عليها منذ نهاية الحرب العامة.
أما في حقوق الفرد فقد ورد:
المادة 6 : السوريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية، والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل او اللغة أو الدين أو المذهب.
المادة 16: حرية الرأي مكفولة، ولكل انسان حق الاعراب عن فكره بالقول والخطابة والكتابة او التصوير او بغير ذلك ضمن حدود القانون.
المادة 24: اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جميع دوائر الدولة.
المادة 28: حقوق الأقليات الدينية محفوظة، ولهذه الاقليات حق انشاء المدارس لتعليم اطفالها لغاتها، على ان لا تخالف بذلك المناهج العامة التي تعين قانوناً.
وفيما يتعلق بالعشائر:
المادة 113: تدار العشائر من قبل ادارة خاصة بقانون خاص تراعي فيه احوالهم الخاصة.
بونسو يحل المجلس التأسيسي
يبدو أن المفوض الفرنسي بونسو كان راغباً بالوصول لحل يرضي الطرفين كما صرح هنانو في خطاب له كانت جريدة الوقت نشرته في ايلول من عام 1928 اتهم من خلاله حكومة تاج الدين الحسيني بالتواطؤ وابداء استعدادها لحذف المواد السيادية الستة التي جاءت الاوامر من باريس بحذفها اوامراً جاءته من باريس تقتضي بحذفها، وهو ما فشل فيه بونسو في اقناع الكتلة الوطنية فأمر بإيقاف اعمال الجمعية التأسيسية لمدة ثلاثة اشهر وسافر لباريس لعرض المستجدات على حكومته، فعاد واجتمع بالأتاسي وعرض عليه اضافة المادة 116 وتنص على التالي: (( ما من حكم من احكام هذا الدستوري يعارض ولا يجوز ان يعارض التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسوريا، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بجمعية الامم، يطبق هذا التحفظ بشكل خاص على المواد التي تتعلق بالمحافظة على النظام، وعلى الامن وبالدفاع عن البلاد، وبالمواد التي لها شأن بالعلاقات الخارجية، ولا تطبق أحكام الدستور التي من شأنها ان تمس بتعهدات فرنسا الدولية فيما يختص بسورية في أثناء مدة هذه التعهدات إلا ضمن الشروط التي تحدد في اتفاق يعقد بين الحكومتين الافرنسية والسورية)).
وقد رفضت الكتلة الوطنية هذه الاضافة كونها تتعارض مع السيادة الوطنية، فقرر بونسو تعطيل المجلس النيابي بتاريخ 7 شباط 1929. وبتاريخ 20 ايار 1930 اصدر قراراً بإعلان الدساتير الخمسة وهي: الدستور السوري، دستور لبنان، دستور سنجق إسكندرون، دستور حكومة جبل الدروز، دستور حكومة اللاذقية. وفي 22 آيار 1930 اعلن النظام الاساسي لمجلس المصالح المشتركة، ثم سافر لفرنسا ليعود بعد ستة اشهر ويصدر ثلاث قرارات:
1-عزل الشيخ تاج الدين الحسيني والحكومة السورية المؤقتة.
2-تعيين مجلس استشاري من الرئيس هاشم الاتاسي وعضوية كل من احمد نامي وتاج الدين الحسيني وجميل الالشي وحقي العظم ورضا سعيد وصبحي بركات ومصطفى برمدا ورئيسي غرفتي التجارة في دمشق وحلب.
3-تحديد موعد للانتخابات المقبلة.
بيان الوطنيون في مقاطعة الانتخابات
اصدر الوطنيون في حلب بياناً لمقاطعة الانتخاب، وعزت ذلك لقيام المفوضية بمحاولة اجراء الانتخابات للمجالس التمثيلية في حلب وبعض الالوية كل على حدة، لتكون آلة لتجزئة البلاد وتفريقها، وان الحلبيون المخلصون يترفعون عن ان يكونوا سبباً لهذه التجزئة المميتة، فأجمعوا بالاتفاق على عدم الاشتراك في هذه الانتخابات وقرروا مقاطعتها. وكان ابراهيم هنانو اول الموقعين على البيان.
جرت الانتخابات في سنة 1931 بمشاركة جزئية من الوطنيين، ونتيجة لتزوير الانتخابات ومقاطعتها من السواد الاعظم لم يفز الوطنيون بالانتخابات وفاز انصار الانتداب.
سيغيب هنانو من الآن وصاعداً عن مسرح الحياة السياسية، ما خلى من تشكيلة المجلس الرسمي للكتلة الوطنية الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة، وذلك في 4 تشرين الثاني 1932 حيث اتخذ الوطنيون قراراً اعطى الصورة الرسمية للكتلة الوطنية وشكلت المكتب الدائم من سبعة اعضاء هم : هاشم الأتاسي رئيساً و ابراهيم هنانو زعيماً، سعد الله الجابري نائب للرئيس، وعضوية جميل مردم بك، شكري القوتلي، وعبد الرحمن الكيالي، وفارس الخوري.
تدهور أوضاع هنانو وآلامه وعتابه
اجتمعت المعضلات والمصاعب المادية والصحية عليه دفعة واحدة، وتوضح لنا بعض الوثائق النادرة عن الحالة المادية السيئة التي مرَّ بها هنانو بدءً من العام 1930 وربما قبل ذلك التاريخ، فهذه وثيقة بخط يد هنانو يسجل فيها كومبيالة على نفسه بمبلغ 150 ليرة عثمانية ذهب استلفها من فوزي بك الجابري في حلب.
ولا أبالغ إذا قلت بأنني استشعرت مرارة ألم الزعيم هنانو الذي حلت به الأمراض بدءً من سنة 1933م، وقد تأثرت كثيراً لما آلت إليه أوضاعه بعد قراءتي لنص الرسالة التي أرسلها من مستشفى حمانا إلى نبيه العظمة في 12 أيلول 1935 يشرح فيها أوضاعه المالية ، ويلوم فيها رجال الأمة على تقصيرهم مع الاعتزاز الذي يمنعه من مد يده لهم فيقول فيها:
” أخي نبيه بك لا عدمتك
شوقاً وتحية أما بعد ،، أخذت كتابك تاريخ 27 آب وشكرتك على شعورك الأخوي واهتمامك ولكن يا أخي كان قصدي من البحث عن تعاسة ماليتي ليس طلب معاونة بل إظهار شيء من العتب واللوم على رجال الأمة التي ضحيت بحالي وخاطرت بحياتي حتى وقعت بالمستشفيات لأجلها، فلا تتعب نفسكم في تدارك شيء أنتم في الغربة وأحوج مني بكثير، ثم أن حاجتي ليست عشرو وعشرين بل مئات الليرات، واقول لكم سراً وأرجو عدم البوح بمقداره أن ديوني اليوم أربعة آلاف وخمسماية ليرة ذهب وكافة أملاكي مرهونة ومحجوزة ولا تفي بالدين لرخص الأسعار الهائل، وكان الأمل وفائها من الواردات غير أنها من خمسة سنين وهي في خسارة وأنا مشغول عنها بالسياسة هذه هي تعاسة أموري المالية مما فيه استمهلنا الدائنين لحين بيع قسم من أملاكنا وأملاك إخواني وإجراء تسوية وتصفية ولكن مرضي حال دون ذلك العمل فإياكم أن ترسلوا شيء لأني سأعيده في نفس البريد الذي يأتي فيه، وبعد توديع كتابي الأول إلى البريد خطر ببالي أنكم ستذهبون إلى اني اطلب منكم معاونة مالية فعلمت أني أخطأت في البحث عنها.
إني مستريح في المستشفى وصحتي بدأ فيها التحسن أسئل الله العافية وقاكم الله من كل مكروه وحفظكم أخي الكريم.
أليس كان واجباً على رجال الأمة أن يسعوا في تعويض قسم من خسارتي في سبيلها وهذا الضيق له كل التأثير في مرضي وإني في كل جهادي لم آخذ شيء من ملك ولا من أمير ولا من جمعية قطعياً ولا من أحد” المخلص هنانو”.
رحيل الزعيم
في تشرين الأول سنة 1935 وصل الزعيم هنانو إلى مهد طفولته كفر تخاريم، والتي كانت مهد بطولته ايضاً ومرتع عظمته، وكان مرضه قد فتك به، وفي يوم الخميس 21 تشرين الثاني 1935 عند الساعة التاسعة والنصف صباحاً لفظ الزعيم أنفاسه الأخيرة في سكون وهدوء في منزله في قرية (ستي عاتكة) قرب كفر تخاريم.
نقل جثمانه إلى منزله بحلب وبقي مسجياً لثلاثة أيام بانتظار انجاز ترتيبات التشييع، حمل ابراهيم هنانو على الأكتاف، في جنازة لم تشهد لها حلب مثيلاً، وكان موكب تشييعه مهيباً يليقُ به حتى بلغ المشاركون 150 ألف وكان رقماً ضخماً آنذاك، وامتد الموكب من الجامع الأموي في حلب إلى مقبرة الثعلبي في الجهة الغربية من المدينة حيث ووري الثرى، واقتصر في التأبين على عشرة خطباء فقط. ولم تخسر سورية خسارة أعظم من خسارتها بهنانو في تلك الحقبة.
نظرة الوداع على الزعيم
الزعيم محمولاً على أكتاف رجال الكتلة الوطنية
قيل في هنانو
قال نبيه العظمة: ابراهيم هنانو: حلب، خريج معهد الملكية الشاهانية الإدارية في استامبول، عربي شجاع، راسخ العقيدة، عمل بكل جد وتضحية من أجل استقلال وطنه واجلاء الاجنبي عنه، مستقيم، موثوق، لا يهادن ولا يتراخى، ولا يطيق الاعوجاج، قاد الثورة المعروفة باسمه، وتعرض للمنافي والاعتقالات وحكم عليه غيابياً بالإعدام، من مؤسسي الكتلة الوطنية، ومن ابرز الرجالات الوطنيين في تاريخ سورية الحديث.
رئيس الوزراء العراقي جميل المدفعي: 17 رمضان 1356 هجري
لاغرو أن الزعيم هنانو لم يكن زعيم سورية فحسب، بل كان من الزعماء العرب البارزين المشهود لهم بالإخلاص والتفاني في سبيل خدمة هذه الأمة التي ستحفظ له أسمه الخالد في أعماق القلوب.
مجلة الرسالة
أما مجلة الرسالة فقد نعت الزعيم هنانو برسالة مطولة، ومما جاء فيها:
موت زعيم كريم، إبراهيم بك هنانو
وا أسفاه !! في الساعة التي اشتبهت فيها معالم السياسة في سورية، فتدسست الأماني الخوادع إلى الشعب، وتفرقت السبل الجوامع بالزعامة، يغيب القطب الهادئ، ويهدم المنار الدال، ويخبو الضرام المذكى، ويخفت الصوت المجمع، ويموت الزعيم هنانو؟! روعت سورية من شمالها إلى جنوبها بنعي هذا الزعيم الكبير، ونالها من خطبه ما غلب على الصبر ومنع من القرار، فهبت كلها تندبه وتريثه، وتبكي بطلها وأملها ودليلها فيه. والحق أن الفقيد العظيم كان مثلا نادراً في الزعامة البريئة الجريئة المخلصة: كان صلباً في الرأي على قدر إيمانه، ومتمرداً على الباطل على سواء حقه، ومهيمنا على الشعب بقوة نفسه ونبل غرضه. جرد على الواغل الدخيل جيشاً من الوطنية الصابرة والحمية الثائرة والعروبة الغضبى….. إلى ان اختتمت النعوة بالدعاء له بالقول: سقى الله بصيب الرحمة ثراه، وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء”
الشاعر عمر أبو ريشة كتب عنه قصيدة عنوانها هنانو جاء في مطلعها ( أنه مات فداء العلم).
هنانو أي صاعقة أقضّت .. على صرح من العليا مشيد؟
هنانو أي سيف أعمدته …. يدر الاقدار في غمد الخلود؟
- رثاه شاعر الشام شفيق جبري قائلاً:
لمن النعش مائجاً بمصابه … زاحفاً بالحمى وزهو شبابه
مشرفاً كالهدى يرف عليه …. وطن مشرق بعز رقابه ؟
وأنشد الأخطل الصغير في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته فقال:
يا دمـاء الشبـاب ما أنـت إلاّ .. ذائب الطيب يا دماء الشباب
ادفقـي رحـمة وأنساً وكونـي … جدول السفح أو هزار الغاب
خاتمة:
التاريخ الوطني الحديث لسورية تاريخ تم تغييبه، والكثير من الأجيال الجديدة لا يعرف شيء عنه، ولا يعرف شيء عن مراحل تكوين سورية الحديثة ولا رجالاتها الوطنية، هذه الإضاءة على إحدى شخصيات النضال الوطني السوري التي يجب استعادتها واخذ العبرة منها والاستفادة منها.
المراجع:
- الغزي، نهر الذهب في تاريخ حلب
- الموسوعة العربية
- فاضل السباعي ، الزعيم ابراهيم هنانو
- فتح الله الصقال ، من ذكرياتي في المحاماة
- خيرية قاسم : الرعيل الاول – حياة واوراق نبيه وعادل العظمة
- ستيفان هامسلي، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي
- نصوح بليبل، صحافة وسياسة
- جريدة الوقت
- جريدة الاهالي
- جميل ابراهيم ، نضال الأحرار في سبيل الاستقلال
- الاعلام للزركلي
- مجلة الرسالة
- صحافة وسياسة ، نصوح بليبل
الهوامش:
- لم أوفق بالوقوف على مرجع ومصدر يتحدث عن نسب ابراهيم هنانو، والتي يبدو أنها لم تكن ذات أهمية عند هنانو نفسه، لكنني اطلعت على آراء نشرها بعض الكتاب الأكراد عن نسب هنانو الكردي، وانقسمت الآراء بين من ينسبه إلى “عشيرة البرازي” وهو اتحاد قبلي من عشائر رحل استقرت في بعد عهد السلطان سليم الأول في سهل سروج وفق إشارات مارك، الذي يعرفها بأنها عشائر رحل استعربت مع مرور الزمن في هذه المنطقة وتزيت بأزياء المنطقة العربية، وهذا حال العشائر الكردية إلى يومنا هذا. بينما ينسبه آخرون إلى “عشيرة رشوان” وهي ايضاً من العشائر الرحل الكردية التي اسكنت عام 1713م في صغراز في بهنسي ثم في اسكنت قسراً في قضاء حصن منصور في لواء مرعش، وتوزعوا بين ( كلس وقونية و محافظة حلب) وأنا بدوري أميل للاحتمال الثاني. وهذا التباين طبعاً في وجهات النظر مصدره إلى أن آل هنانو لم يعرفوا بما توارد عنهم إلا هوية واحدة هي الهوية السورية والاعتزاز بثقافتهم وانتماءهم العربي بعد تحولوا إلى الاستقرار منذ قرون واصبحوا من كبار الملاك حتى أن لقب (آغا) لم يفارق والد ابراهيم هنانو (سليمان آغا).
- ولد رشيد بك سنة 1877 في الشوف في لبنان، ودرس في بيروت والآستانة، وعين عضواً في مجلس المبعوثان عن الدروز، ثم متصرفاً لطرابلس في الحرب، وعين وزيراً في العهد الفيصلي، وحكم عليه بالإعدام بعد العهد الفيصلي، تولى رئاسة الوزارة في الاردن سنة 1922م، ثم استقال واستقال بسبب الانكليز.
- هو الأمير مجحم ابن مهيد ممثلاً عن العشائر، ساعد الفرنسيين سنة 1920 في السيطرة على دير الزور.
- أول عدد من جريدة الأهالي نشر يوم الخميس 12 آيار 1910م باللغة التركية. رئيس تحرير هذه الصحيفة كان مصطفى عاصم، والمدير المسؤول كان أرمنياً ويدعى ارداشيس بوغيكيان.
- سعد الله بن عبد القادر لطفي الجابري: ( 1892 – 1947 م )، رجل دولة. كان زعيم حلب بعد الحرب العامة الأولى. وبها مولده ومنشأه. تعلم بالأستانة. وكان ضابطا في الجيش التركي أيام الحرب (1914) وعمل بعدها في مقاومة الانتداب الفرنسي. وأمدّ ثورة (هنانو) بالمال والرجال. واعتقله الفرنسيون أكثر من مرة وانتخب نائبا عن بلده وتولى رئاسة الوزارة السورية (1943) وكان رئيسا لمجلس النواب يوم ضرب الفرنسيون مبنى المجلس الني أبي في دمشق بالمدافع (29 أيار 1945) . توفي في حلب ودفن بجوار هنانو.