أعلام وشخصيات
كـامل الغـزّي
من أعلام حلب الشهباء ..الشيخ كـامل الغـزّي
اسمه ومولده وأسرته :
هو العالم المؤرخ الأديب الشاعر الشيخ كامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي الشهير بالغزي، ولد بحلب سنة 1270 الموافق 1853، في أسرة اشتهرت بالعلم والفضل والوجاهة في ميادين الزراعة والتجارة، فوالده الشيخ حسين البالي ، ولد في مدينة غزة بفلسطين ،ودرس في الأزهر، ثم رحل إلى جزيرة أرواد أمام شاطىء مدينة طرطوس ، ومنها إلى طرابلس الشام، واشتهر بفضله فيها، ثم دعي للتدريس في مدينة حلب، فعالج علوم الشريعة والحديث والمنطق واللغة والأدب العربي، فأحدث نهضة فكرية وأدبية. توفي في الخامسة والثلاثين من عمره، تاركاً ابنه كامل يتيماً في اليوم التاسع من عمره ، وتزوَّجت أمه بعده الشيخ محمد هلال ابن محمد الآلاجاتي، وأنجبت منه أخاه الشيخ بشير الغزي الذي رباه في حجره صغيراً حتى غلبت كنيته عليه.
نشأته ودراسته:
نشأ كامل الغزي في كنف زوج أمه الذي أحسن رعايته، ولما بلغ سنَّ الدراسة دخل الكتَّاب، فحفظ القرآن الكريم وله ثماني سنوات، ودخل بعد ذلك (المدرسة القرناصية) بحي الفرافرة بحلب، فتابع فيها دروسه الابتدائية والثانوية، وفيها حفظ أكثر من عشرين ألف بيت منها ألفية ابن مالك والشاطبية وعقود الجمان للسيوطي. ثم انتقل بعد ذلك إلى العلوم العالية فدرس التفسير والحديث النبوي والفقه على شيوخ وأعلام بلده مثل الشيخ محمد علي الكحيل والشيخ مصطفى الكردي.
سفره إلى الحجاز:
اتصل كامل الغزي بأصدقاء أبيه ومعارفه، وبلغ إلى مجالس والي حلب آنذاك (محمد رشدي باشا الشرواني) فأعجب الوالي بذكائه ومعرفته، وقرَّبه إليه، ولما نُقل الوالي حاكماً للحجاز اصطحبه معه وجعله إماماً لتلك البلاد، فرأى الديار المقدسة وعرف بلاداً بعيدة واسعة فتفتح عقله وتنبه ذهنه، لكن مقامه هناك لم يطل لأكثر من ثمانية أشهر، لأن الوفاة أدركت ذلك الوالي الشرواني في مدينة الطائف.
متابعته الدراسة وأعماله ووظائفه :
ولما رجع إلى حلب استأنف دراسته ودخل (المدرسة العثمانية)، وظل فيها حتى سنة 1878، انقطع خلالها إلى طلب العلوم العقلية والنقلية، ثم تقلب في وظائف الدولة، فعمل أمين مستودع في قضاء روم قلعة بولاية أورفة، ومترجما لمطبعة الولاية بحلب ، ثم في كتابة الضبط في محكمة التجارة، ثم عضواً في المجلس البلدي بحلب،لمدة عشر سنوات، وتولى سنة 1882م تحرير جريدة الفرات الرسمية والأسبوعية بحلب نحو عشرين عاماً بعد عبد الرحمن الكواكبي ، وصار في أثناء ذلك عضواً ثم رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية للحكم والنظر في الدعاوى، ومنحته الدولة العثمانية سنة 1898م رتبة «أدرنة» الرفيعة مصحوبة بالوسام المجيدي الثالث.
وفي سنة 1901م أسَّس مكتب صنائع الأحذية والألبسة والنجارة، وبقي مديراً له أربع سنوات، وكان قد انتسب إليه (160) طالباً، واستأجرت له دائرة معارف حلب دار الصابوني الواقعة في محلة باب قنّسرين أمام جامع الرومي، ثم صار ثانية رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية، ثم عضواً فرئيساً لغرفة التجارة، وأنشأ في عام 1908م مع حكمت ناظم جريدة «صدى الشهباء»، ثم صار رئيساً لمجلس المصرف الزراعي بحلب أربع سنوات، وفي سنة 1913م صار تاجراً للسمن والشمع، وانتخب عضواً في المجلس البلدي، وبقي كذلك إلى سنة 1922م، ثم أسس المكتبة العامة للمدرسة الخسروية التابعة لمديرية أوقاف حلب، ورتبَّها، ووضع برنامجها، وفي أثناء ذلك انتخب في عام 1923م عضواً مراسلاً للمجمع العلمي العربي بدمشق، فعينه المجمع مديراً لشؤون فرعه في حلب، ومشرفاً على خزانة كتبه.
وفي سنة 1924م منح وسام المعارف الفرنسية من الدرجة الثانية، وسمي عضو شرف للمجمع العلمي الفرنسي في باريس، وفي سنة 1930م صار أول رئيس لجمعية الآثار القديمة «العاديات»، وعضو اللجنة الإدارية للمتحف الوطني بحلب، ورأس تحرير مجلة «العاديات السورية»، وفي سنة 1931م نال وسام المعارف الفرنسية من الدرجة الأولى ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الثانية.
انصرافه إلى دراسة الآثار وتأليفه ” نهر الذهب في تاريخ حلب”:
في العشرين الأخيرة من سنيِّ حياته،انصرف إلى دراسة الآثار وتدوين الوقائع وجمْع الوثائق ومراجعة السجلات الخاصَّة ببلدته الشهباء وأعمالها وتوابعها، وقدم جهوداً جبارة استنزفت أوقاته وكثيراً من أمواله لجمع الشوارد وجمع التراجم ولما تمَّ له ما أراد وضع كتابه الشهير: «نهر الذهب في تاريخ حلب» وهو يعدُّ بحق أثره الخالد.
وقد جمع في كتابه ألوان البحث عن تاريخ حلب في (صنائعها ومدارسها ومذاهبها وأديانها وعاداتها وحياتها الاجتماعية في مختلف أحيائها القديمة والحديثة) رسمها الغزي بريشته ووقف عليها بنفسه. وقال في مقدمته: (وبعد، فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب، وأصرف على تأليفه من نقد عمري وجوهر مالي ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها، وتصفَّحت زهاء مائة مجلد من السجلات المحفوظة في المحكمة الشرعية، وتكبَّدت عناء زائداً في الاطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية، وعلى ما هو مدَّخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرقاع الخصوصية التي سطرها ذووها في بعض شؤون تاريخية ذات أهمية عظيمة في وقتها، فكنت لا أصل إلى ما يهمُّني أمره من هذه المواد إلا بعد عناء شديد ونفقة باهظة. وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار أضطر في بعضها إلى تحمل مشاق الأسفار لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق لا كتابة تقليد وتلفيق).
قال الدكتور عبد الرحمن كيالي عن هذا الكتاب : إنه صورة ناطقة لأفكار الفقيد وأدبه وأسلوبه العلمي وهو من حيث المحتويات والعلوم التي تناولها دائرة معارف خاصَّة بالشهباء ،وقد ذكر فيه علم الطوبوغرفيا، والأقاليم وعلم المدن والإدارة، والإحصاء وعلم العمران والعادات، ثم علم الآثار، وعلم الحوادث والوقائع، وأخيراً: تراجم الأحوال، ومن مقدَّمته، تعلم كتب التواريخ التي بحثت عن حلب، وتعلم ما قيل عن إقليمها وهوائها وعمرانها في الماضي والحاضر، وتعلم تقسيماتها الإدارية وأسماء محلاتها ومن يسكن تلك المحلات من أسر شهيرة، وتعلم منها إحصاءات النفوس والواردات والإنفاقات والاعتبار وبقية الضرائب، وتعلم أيضاً بماليتها وطوائفها وبأسماء الأقضية وتاريخ مدنها وأسرها أيضاً، وتطَّلع على منتوجاتها الزراعيَّة ومياهها والأمراض التي تعتريها، وفي الجزء الثاني الذي خصَّصه بالباب الأول تعلم الآثار الدينية والعلمية والخيريَّة الموجودة في مدينة حلب، وتعلم أهم الوقفيات الواردة في سجل المحكمة الشرعية وشروط واقفيها ومستحقيها وما تبدل في أعيان عقاراتها. وفي الجزء الثالث: الذي هو الباب الثاني تعلم: الحوادث التاريخية والسياسية والاجتماعية والعمرانية من قبل الإسلام وبعده حتى وقتنا الحاضر.
ومن يطلع على الأجزاء الثلاثة ويدقِّق في محتوياتها يقدِّر عظيم فائدتها ويعلم أهميتها ويتصوَّر التعب والمشقَّة اللتين تحمَّلهما للحصول على ما أورده فيها”.
ثم يقول: “ما كاد ينتهي من الأجزاء المذكورة ويتهيىء لطبع الباب الثالث والرابع الخاصَّين في تراجم الرجال الماضين والمعاصرين حتى داركه ضيق اليد، وكساد العلم ، وأخيراً القدر فانتهت أيامه المعدودة ولم يوفَّق لإنهاء ما أراد فبقي الأثر النفيس ناقصاً وبقي بنو الشهباء مقصِّرين “.
عنايته بالشعر والأدب :
توجه الغزي إلى الشعر العربي القديم، فجمع أشعار قومه من بلاد الشام وتناولهم بالدراسة، كما جمع أشعار القدماء، واجتلب المخطوطات النادرة، فقرأ شروح المتنبي ودواوين العباسيين، وانتهى إلى فهم عميق للشعر العربي واللغة العربية، لذلك اختاره المجمع العلمي عضواً فيه، ثم رئيساً لفرعه بحلب سنة 1921، وقد جعل هذا الفرع في قلب الأسواق الداخلية للمدينة، وجمع فيه مكتبة غنية، فكان الشيخ كامل الغزي يجتمع إلى إخوانه وأبنائه الطلاب يحلل ويشرح لهم ما جاء في هذه الكتب، لذا كان فرع المجمع نواة لتخريج شباب كثيرين بلغوا مبلغاً عظيماً من العلم والجاه.
نظم كامل الغزي الشعر، وكان يساير روح العصر في شعره، كما اشتهر عنه شعر العبث بالناس أو السخرية الجميلة، وسجَّل في شعره الكثير من أغراضه الخاصَّة والعامة.
وله قصيدة حكمية جعلها في مائة وعشرين بيتاًكلها حكمة وإرشاد، نظمها بمناسبة ولادة ابنه (حسين فيصل) سنة 1338، فأراد أن يبقي لولده الذي ليس له سواه من الذكور وصيَّة جمعت اختباراته وتجاربه في الحياة ليعمل بموجبها فلا يضل الطريق ولا تغره سوآت المجتمع ، وشرح هذه القصيدة وعلَّق عليها وجعل فيها كل الآراء التي يريد لابنه أن يتخذها وأن يتعلمها، وجعل هذا الشرح في رسالة بعنوان (القول الصريح في الأدب الصحيح) وهي لا تقف عند النصائح الجامدة وإنما تضم معلومات شتى عن الفرق والمذاهب والقضاء والقدر، وما أصاب الأمة الإسلامية من ذلك كله على مدى التاريخ، كما تضمنت آراء سياسية واجتماعية شديدة الجرأة.
كما كتب رسائل عدة في الإصلاح، ومقالات كثيرة نشرها في صحف حلب وبيروت والقسطنطية .
ومن منظوماته :القصيدة المزدوجة وفيها هجو حكومة تلك الأيام ، وقد نشر عدة قصائد ومقالات في مجلات وصحف حلب ودمشق وبيروت والأستانة.
الروزنامة الدهرية:
أحسَّ الشيخ الغزي حين قرأ التاريخ الإسلامي وذكر السنين الهجرية فيه بأيامها وشهورها،شدة الحاجة إلى جداول تستهل موازنة الشهور الغربية بالعربية والسنين الهجرية يالميلادية، فألف (الروزنامة الدهرية) والتي استلبت منه وقتاً طويلاً في حساب الرياضيات ورسم الأرقام ، و«الروزنامة الدهرية وذيلها» طبعت في حلب سنة 1922.
رئاسته جمعية العاديات وكتابته في مجلتها :
اختارته (جمعية العاديات) بحلب عام 1930 رئيساً لها، وظلَّ على ذلك حتى آخر أيامه. وكان يرسل فيها مقالاته عن حلب وآثارها تنشرها مجلة العاديات معتزة ببحوثه وآرائه.
من آثاره:
ـ (نهر الذهب في تاريخ حلب)، طبع منه ثلاث مجلدات من أصل أربعة. طبع في المطبعة المارونية سنة 1922 ، ثم أعيد طبعه وقدم له وصححه وعلق عليه شوقي شعث، والجزء الرابع منه في التراجم، لما يطبع بعد . ذكره الغزي في نهاية الجزء الثالث ،فقال: ( انتهى الجزء الثالث من كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب ويليه الجزء الرابع 000) وقد أشار الى الجزء الرابع مرارا في الأجزاء الثلاثة الأولى المطبوعة من كتابه باسم ( التراجم والسير) حيث قال أنه سيذكر فيه أعلام حلب وسير الأسر العظام فيها متقصيا تاريخها وأحواله ، وقد كان الغزي مرجعا لا سبيل الى الشك في معلوماته عن تاريخ الأسر الحلبية لأنه كان مطلعا بحكم عمله رئيسا لديوان المحكمة الشرعية في حلب على دفاتر المحكمة التي تعود الى أكثر من ثلاثمائة عام في حينه وتحتوي على تفاصيل العلائق الاقتصادية والاجتماعية الحلبية .
وقد رحل الغزي دون أن ينشر ذلك الجزء وتبعثرت مكتبته دون أن يظهر الجزء المفقود، والأغلب أن الغزي قد تحرَّج من نشره في حياته خشية أن يثير حفيظة بعض من تناول ذويهم بالترجمة بذكر مالا يرغبون معرفة الناس به وإلا فلم يكن ثمة سبب معقول آخر يمنع الغزي من نشره وهو الذي حرص أن يذكر في كتابه غير مرة أن كتابه غير منقول ولا مسبوق وأنه يريد أن يوصل حقائق جديدة الى الناس عوضا عن تكرار ماكتبه الأسلاف .
ـ (جلاء الظلمة في حقوق أهل الذمة) استخرجه من كتب الحديث والسنة ليبرهن على ما منحتهم إيَّاه الشريعة الإسلامية من الحقوق وعنايتها بصيانتهم وكفالتها لحريتهم وسعادتهم . مخطوط يقع في 400 صفحة، والمخطوط في حوزة الشيخ يونس رشدي أمين دار الكتب الوطنية.
ـ «القول الصريح في الأدب الصحيح» هو شرح في 192 صفحة لأرجوزته اللامية التي نظمها وصية لابنه الذي ولد له عند بلوغه 68 عاماً، وتقع في 121 بيتاً، نشرتها مجلة الضاد في العددين 3 و4 لعام 1933، وقد نشر جزء من هذا الشرح في مجلة المجمع مج5 فيه 51 بيتاً من القصيدة، ولم تزل تتمته مخطوطة
ـ (الروضة الغناّء في حقوق النساء)، مخطوط. ذكر المؤلف في ترجمته أنه في 400 صفحة، وأشار الزركلي إلى أنه مخطوط .
ـ (ديوان شعر)، مخطوط. أشار الغزي في ترجمته المذكورة آنفاً إلى أنه يقع، لو جمع، في مجلد كبير، وقد بلغت الأبيات التي عثر عليها في المصادر مايزيد على 185 بيتاً.
ـ «رسائله إلى المجمع العلمي العربي بدمشق» لما تطبع بعد، وهي بخط الأب جرجس منّش زميله في عضوية المجمع .
ـ «إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف» عربه التركية لمؤلفه عمر حلمي ،وطبع في مطبعة البهاء بحلب 1327هـ، 1909م.
ـ«ترجمة أبيه حسين وأخيه بشير» نشرها الشيخ محمد راغب الطباخ في كتابه «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء»،
وغير ذلك من رسائل في الصرف والنحو والأدب.
ومن كتبه المار ذكرها وما حرَّره في الجرائد العربية والمجلات في بيروت ودمشق وحلب والآستانة من مقالات يستدل على أنه كان من الموسوعيين الذين وعوا نتاج من سبقهم ، وحققوا في منقولاتهم وأضافوا إليها.
وفاته وتأبينه :
توفي الشيخ كامل الغزي ،في سحر يوم السادس عشر من رمضان سنة1351الموافق للثاني عشر من كانون الثاني 1933، عن ثمانين عاماً ونيف، ودفن في مقبرة الشيخ جاكير بحلب، وكان قد تزوج امرأتين، وأعقب ولداً وبنتاً هما: حسين فيصل، ونفيسة.
وأقيمت لتأبينه حفلة كبيرة عدَّد فيها الخطباء مزاياه.كما أقامت جمعية العاديات حفلة تذكارية لوفاته في حديقة نادي حلب بتاريخ 21 أيار سنة 1935 وحضرها نخبة من أصدقاء الفقيه من ذوي العلم والأدب في الشهباء.
كلمة الدكتور عبد الرحمن الكيالي:
ومن جملة المتحدثين الدكتور عبد الرحمن الكيالي بخطاب حلل فيه حياة الفقيد العلمية ومكانته مع نبذة موجزة عن مؤلفاته القيِّمة وخاصة عن تاريخ حلب.ومما قاله في العلامة الغزي رحمه الله : “إن الفقيد كان ولا شك عالماً عربياً وأديباً إسلامياً، وهو من بقية السلف الصالح ، ومن خاتمة العلماء الذين تخرجوا في المدارس الدينية وتثقفوا بثقافتها. وكان مشهوراً في علم الأدب وله حافظة قوية وولع في الشعر، ثم انكبَّ على المطالعة والترجمة، ورحل إلى الحجاز، ولما عاد تولى بعض الوظائف الإدارية فأكسبته معرفة بالناس والحكام. وبقي زمناً يعاني شظف العيش ومرارة الكسب ولما ناله ما ناله من اضطهاد الحكام لجرأَته وحرية أفكاره أطلق لسانه في ذمِّهم وهجوهم ووصف مظالمهم” .
وتكلم عن منهجه العلمي ، فقال :” والشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يتمايز عن غيره بميله للأدب العربي وحسن أسلوبه في الكتابة والمحادثة وبتعلقه في التاريخ وعلم الآثار وتراجم الأعلام، من أبناء بلدته . وبالرغم عن كونه تربَّى تربية القرون السالفة التي اعتمدت على الفلسفة النظرية والمنطق القياسي، فقد كان ذهنه جوَّالاً ينفذ إلى بواطن المنقولات والمعقولات ويذعن للبرهان الحسِّي والحقيقة الواقعة ولا يكابر بالمحسوس ، وكان يجتنب التقليد ويحبُّ الاطلاع، ويجحد التسليم بأن كل ما قيل أو نقل هو الحقيقة والصواب، ولذا كان حر الفكر، جريء القول، يحب الاطلاع والتفكير ولا يعرف الملل ولا يكل من المطالعة والتتبُّع وفحص المسائل وتمحيصها ولا يحجم عن الإجابة عن أيِّ سؤال يُسأل عنه ، ولا يبخل على أحد برأي يستشار به .ومع أنه كان ذا عاطفة فيَّاضة وشعور حماسي ألهماه الشعر وطبعاه بطابع الأدب فإن اشتغالاته الأخيرة في علم التاريخ والآثار طوَّرت نفسيَّته وعدلت ذهنيته وأبعدته عن الخيال وساقته للواقع وما يقع تحت الحس.
وللدلالة عن حسن طريقته في التأليف والوضع وأنه لم ينقل عن غيره ما لا يتحقَّق صدقه، وأنه لم يكتف بالرواية ، بل ذهب للاستقراء والتتبُّع بذاته شأن رجال العلم الحديث نذكر ما أورده في مقدمة كتابه عن طريقته إذ قال: «وكنت أثناء استقصائي الأخبار والآثار اضطر في بعضها إلى تحمُّل المشاق وركوب الأسفار لأتمكَّن من الاطلاع على الحقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق لا كتابة تقليد وتلفيق».
فترون من هذا القول المقرون بالعمل كما هو ثابت في تاريخه أنه اتَّبع الأسلوب العلمي، وأن هدفه فيما أنفقه من الأموال وتحمَّله من المشاق لم يكن لنفع ماديٍّ بل كان للبحث والاستقراء . ومن كانت جهوده مجرَّدة للعلم وكانت لذته البحث عن الحقيقة، وكان أسلوبه المشاهدة والاستقراء والبحث، لا شك استحق أن يدعىعالماً بالمعنى المفهوم للعلم والعالم.
كلمة الشيخ محمد الحكيم :
ثم قام الشيخ محمد الحكيم وارتجل خطاباً صوّر فيه نفسيَّة الفقيد وما كان عليه من الميل إلى البحث والتنقيب هذا إلى رونق النادرة وسرعة البداهة وطلاقة الحديث التي اشتهر بها ـ رحمه الله تعالى ـ.ومما قاله في ذلك الحفل :
“الشيخ كامل الغزي ـ رحمه الله تعالى ـ بالرغم عن تشعُّب نفسيَّته، وتحشُّد عناصرها يكاد يرجع إلى ركنين واضحين هما أنه كان يتحلل إلى شطر من الفكر والتحقيق والتنقيب، وشطر من المرح والنشاط والفكاهة.
وهكذا في كل شأن من شؤون حياته في درسه وحديثه وسمره ومباذله واجتماعه وانفراده إنما كان مفكراً نشيطاً فكهاً، صابراً جذاباً يجمع إلى البحث والتنقيب وبُعد العمق وسَعة العطن ونشاط المرح ورويته الفكاهية ورونق النادرة وطلاوة الحديث وعذوبة الدرس والتمحيص.
كأنه أبى إلا أن يكون ناسجاً على منوال الجاحظ، طابعاً على غراره ،لا يترك النادرة حتى في أحرج المواقف ، تشعر وهو يحدثك بحقائق علمية أو طرائف أدبيه أو حديث عادي بلذة لا توصف وسرور لا يقدر ويأخذك ببديع سحره وجميع فكاهته وشدَّة أسره وقوة أيد حديثه.
بحث في تاريخ حلب وحرَّر رسائل عديدة علمية وأدبية واجتماعية بحثاً مستوفياً استقصى فيه النهاية وأدرك الشوط ، ولكنه وهو يتنقل من قاعدة إلى قاعدة، وحقيقة إلى حقيقة ،يستهويك بنادرته وعذوبة بيانه وانسجام ألفاظه ولا يأخذ الحقائق على عواهنها وإنما يقتلها بحثاً وتدقيقاً ويمزجها بلطف الفكاهة وبديع النادرة وفي أواخر حياته لما ذرف على الثمانين وأقيم له حفلة التكريم ثم ألقى بصفته محتفى به كلمته لم يكن منه إلا أن استهلها بقوله:
إنَّ الثمانين وبلغتها (ما) أحوجت سمعي إلى ترجمان، فكان أبدع نادرة وأصدق تعبير عن حالته بنقله كلمة البيت (قد) إلى (ما)، فصدق لأنه حتى ذلك السن لم يزل نشيطاً قوياً يتمتع بحواسه وسائر مشاعره، وأضحك لاسيما في موقفه وحالته التي لا يصورها بيان ولا تفيها عبارة.
ثم قال: إنكم تكرمون رجلاً هرماً قد أصبح من الآثار العتيقة وهكذا كانت أكثر خطبته على هذا النمط المُعجب المُطرب البديع الساحر. ولو شئنا أن نستقصي لأعوزنا المقام . وقد كان في نفسيته تسامح محبَّب ،وحلم عجيب طبعه عليهما العوامل العديدة التي أثَّرت عليه في حياته، فعرك الأيام وعركته إلى نزاهته وتحاشيه عن الأذى وعفته عن الغيبة والنميمة وغرامه بالإسعاف والإيخاد في أي فرصة انتهزها ونهزة اقترصها.
والخلاصة: فإن الفقيد عال في أخلاقه كبير في نفسيته، محبوب في حياته، مأسوف عليه بعد مماته، محتفى به من قبل ومن بعد، فنسأل الله الذي فجعنا به أن يجعل عوضاً في عاشقي فضله ومريدي أدبه، ويوفق نجله المعزى لأن يقتفي أثره ويسير في منهجاه”.
رثاء صديقه المحامي جورجي الخياط:
وقد أرسل صديق الفقيد المحامي جورجي أفندي الخياط بضعة أبيات تنمُّ عما كان بينهما من الرابطة الأخوية المتينة وعن الحزن العميق الذي تركه موت الفقيد في قلوب أصدقائه ، وهذه هي الأبيات :
يا أيها العلم المحجب في الثرى ضنَّت بمثل صفاتك الأيام
يا كامل الأوصاف إن بني العلى في بحر علمك كلهم قد عاموا
أشقيق روحي أنت خِلِّي المُرتَجى ولأنت لي يوم الوغى صمصام
أهل المعارف واللطائف والحجى بك لا بغيرك عمرهم قد هاموا
دوَّنت للتاريخ سِفراً خالداً يبقى لسكان الحمى ما داموا
وعلى ضريحك كم وكم لي وقفة أبكيك ما صلى الأنام وصاموا
وقال فيه الأديب سامي الكيالي: (شيخ تمثَّلت فيه طبيعة العلماء، وذوق الأدباء، ونزعة المجددين، ووداعة الظرفاء، وجمال الشيخوخة في فتوتها الباسمة) رحمه الله تعالى وغفر له.
المراجع:
ـ مجلة العاديات الحلبيَّة ، العدد الأول من السنة الرابعة : ( 1935 ).
ـ (مصادر الدراسة الأدبية) يوسف أسعد داغر، مكتبة لبنان، الطبعة الأولى 2000، ص(966،967).
ـ (الأعلام) خير الدين الزركلي، دارالعلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء الخامس، ص(217).
ـ (قدماء ومعاصرون) د. سامي الدهان، دار المعارف، مصر، 1961، ص(224ـ 234).
ـ أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر ، لقسطاكي الحمصي (مطبعة الضاد، حلب 1968).
ـ الأدب العربي المعاصر في سورية 1850ـ 1950، لسامي الكيالي، (دار المعارف، القاهرة 1968).
ـ الحركة الفكرية في حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لعائشة الدباغ، (دار الفكر، بيروت 1972).
ـ الشيخ كامل الغزي مؤلف نهر الذهب في تاريخ حلب ، لعمرو الملاح، (دار القلم العربي، حلب 1991)(1).
(1) رابطة العلماء السوريين، مجد مكي – التجهيز الأولى ثانوية المأمون ومعاوية بحلب