عام
د. عادل عبد السلام (لاش) : رحلة شتوية إلى جبال صلنفة
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
مهداة إلى كل من رافقني في الرحلات والمعسكرات
جاءني في أواخر ستينات القرن الماضي عدد من طلابي في السنة الأخيرة من قسم الجغرافيا في جامعة دممشق، وعيد الأضحى على الأبواب، والموسم شتوي بارد.وطرحوا علي سؤالاً عن برنامجي لقضاء إجازة العيد. فأجبتهم أنه برنامج عادي ولايخرج عن نطاق المألوف من حيث الواجبات الاجتماعية باستقبال المهنئين و زيارة الأهل والأصدقاء. فاقترحوا علي تغييراً فيما اعتاده المجتمع، بأن أشرف على رحلة يفكرون القيام بها في فترة العيد إلى أي مكان في سورية أختاره هرباً من الروتين المعتاد في الأعياد والعطل الرسمية. و مراسم (استقبل وودع). ولما كان اقتراحهم نابعاً من قناعتهم بقبول عرضهم، لما يعرفونه عن حبي للرحلات الجغرافية الطبيعية وهوسي بها، وافقت على طلبهم على مضض، لأنني كنت مرتبطاً ببعض الواجبات الاجتماعية في فترة أيام العيد. وكي أعرف مدى جديتهم حاولت ثنيهم عن مخططهم بأن يقبلوا الذهاب إلى أية منطقة أختارها مهlا كان وضعها في ظروف الشتاء القارس. فكان الجواب أنهم مستعدون للذهاب معي إلى القطب الجنوبي. فأسقط في يدي حين وافقوا على الرحلة إلي جبال صلنفة في سلسلة جبال الساحل السوري، الولقعة فوق ارتفاع 1100م فوق سطح البحر، وتغطيها الثلوج في فصل الشتاء. ولما كانت الرحلة خارج نطاق الأنظمة الجامعية تم الاتفاق مع المشتركين وكان عددهم 23 طالباً، على اللقاء في ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية و منها إلى صلنفة. ولما أردنا التزود ببعض المواد الغذائية والخبز من اللاذقية قيل لنا أن كل شئ متوفر في صلنفة. فانطلقنا إليها بسيارة لاندروفر مستأجرة ركبها 18؟؟؟؟؟ طالباً وركب الباقون بسيارتي الصغيرة. وصلنا ساحة البلدة الخالية من المارة ودخلنا إلى مقهى فسيح الأرجاء يحتل وسطها، وجدناه خلواً من الزبائن عدا ثلاثة أفراد يحتضنون مدفأة منصوبة في الوسط. نظروا إلينا نظرة استغراب وتساؤل، ونهض صاحب المقهى ورحب بنا وقدم لنا الكراسي التي كانت مكدسة في إحدى الزوايا. ثم بدأ بالاستفسار مع ترديد جملة ” شو جابكن بهالشتاء و الثلج والبرد إلى هذا المصيف ؟؟”. فصلنفة هي منتجع صيفي يكاد يخلو من السكان في فصل الشتاء. فأخبرناه بهدفنا. لكننا ولما استفسرنا عن موضوع الإقامة لمدة أربعة أيام، فوجئنا أن جميع المنازل التي تستقبل المصطافين والفنادق في البلدة مغلقة، لكن أحدهم أعلمنا أن صاحب أحد الفنادق يقيم في البلدة لعله يفتح لكم فندقه المغلق. وتم استدعاء (أبو أنطون) وهذا لقبه، على عجل، وبعد إطلاقه تعابير التعجب حول مجيئنا إلى صلنفة خارج الموسم السياحي. أبدى استعداده، لإيوائنا في فندقة، لكنه تردد وأُحرج حين سألناه عن أسعار الإقامة. إذ قال أنه لم يستقبل أي زبون في حياته في الشتاء، وأنه لا يعرف المبلغ الذي سيتقاضاه منا، لكنه وبعد مساومة قصيرة بين له فيها بعض صحبي أنهم طلاب علم (معترين)، قبل بمبلغ رمزي جداً جداً مع اشتراطه أن نتكفل بتأمين الوقود لمدفأة الصالون الوحيدة، عندها انبرى أحد الحاضرين وأبدى استعداده بتقديم المازوت بسعر شرائه. كما ضمن وصاحب المقهي لنا تأمين الطعام.
لكننا وبعد تجاوزنا عقبات تأمين المنامة والتدفئة والطعام ، واجهتنا مشكلة عدم توفر الخبز في صلنفة في الشتاء، خاصة وأن أغلب السكان يغادرونها في هذا الوقت و في الأعياد إلى اللاذقية وغيرها إلى الساحل الأدفأ. ولم يجدِ ذهابي مع بعض طلابي إلى الحفة بل وإلى اللاذقية بحل المشكلة، على الرغم من تبرع من كان في المقهى بتقديم بعض الأرغفة لنا. عندها تقدم اثنان من الطلاب هما المرحوم محمد قبلاوي ، وأمين القلق (دكتور جغرافيا فيما بعد) واقترحا التجول في البلدة بحثاً عن خبز يشترونه. خرج الاثنان ليعودا بعد قرابة الساعتين، وهما يحملان نحو 50 رغيفاً، ظننت أنهما ابتاعاها، لكنني شككت في ذلك حين اكتشفت اختلافاً كبيراً بين أحجام الأرغفة وأشكالها ونوعياتها، وتبادر إلى ذهني أنهما ابتاعا الخبز من أكثر من مكان، وبسؤالهما، فوجئنا بكيفية حصولهما عليه.
كان محمد رحمه الله ضخم الجسم وأمين نصف حجمه تقريباً، وأفادانا أن محمد تقمص دور ضرير يمسك عصا يهتدي بها، وأمين ممسك بيده يسير به ويطرق الأبواب يتسولان الخبز، الذي كان السكان يجودون به عليهما، بل وببعض الأطعمة (جبن و سوركة -شنكليش- وكرات لبنة وزيتون ووو). وعلى الرغم من استيائي من هذا التصرف وقولي لهما ” الله لايعطيكن العافية فوق تعبكم… فضحتونا في البلد..” طمأناني بأنهما توصلا إلى الاتفاق مع امرأة تخبز لنا حاجتنا من الخبز يومياً. ففتر غضبي وسرى عنى. وهكذا استقر بنا المقام في فندق أبي أنطون. وفي صبيحة اليوم التالي وبعد انقشاع الضباب انطلقنا في مسيرة استطلاعية وكان الثلج يكسو الصخور وأغلب الأماكن بغطاء ثخانته بحدود المتر، حددت فيها الأماكن المكشوفة القابلة للدراسة الجيومورفولوجية. واستطلعنا تضاريس الصخور الكلسية حتى إطلالة الجبال على سهل الغاب. وفي اليومين التاليين وبعد تقسيمي الطلاب إلى ثلاث مجموعات، أمضينا الوقت في الدراسة العلمية الميدانية ونحن نغوص في الثلج حتى ركبنا. غادرنا صلنفة بعدها عائدين إلى دمشق.
ذكرتني هذه الرحلة التي ما زال من شارك فيها يتندر بمجرياتها، برحلة جامعية مشابهة إلى جبال الهارتز في ألمانيا شاركت فيها في شتاء 1962. رحلتان تعد أيامهما من أسعد أيام قضيتها في أوقات طيبة نفتقدها، ونحِن إليها اليوم.
عادل عبد السلام (لاش) دمشق 27-12-2016.