مقالات
د. جمال قبش: القباني ولغز صوره
استوقفتني بل واستفزتني «دعوة» كان الدكتور الصديق عجاج سليم قد نشرها منذ أيام على صفحته بالـ «facebook» يطالب من خلالها ليس فقط إلى إلغاء صورة القباني المتعارف عليها سابقاً، بل ويدعو أيضاً إلى تبني واعتماد صورة جديدة لرائدنا المسرحي أحمد أبو خليل القباني. سارعت هنا بالكتابة إليه لمعرفة أسباب هذا «الانقلاب» ومطالباً إياه بتصويب ما كتبه خشية أن يؤخذ كلامه على محمل الجد أو بالعمل على تقديم البراهين التي تدعم صحة كلامه. وعليه، فقد سارعت بعض المواقع إلى تبني هذا الكلام واعتماده من دون أي تدقيق، وكيف لا وبخاصة عندما نرى الثناء والمديح أخذ ينهال على ما نشر وتحديداً على صورة القباني الجديدة التي عدت اكتشافاً مهماً يضاف للدكتور…!!! ورغم وعود الصديق عجاج بتقديم البراهين على صحة ما قدمه ورغم مناشدة الدكتور سيد علي إسماعيل، صاحب الإنجاز الجميل والقيم والمتعلق بـ«جهود القباني المسرحية في مصر»، لكن الدكتور عجاج (الذي كان له دور كبير في صدور المرجع السابق) فضّل الانسحاب من «السجال»، وفضّل حتى سحب «دعوته»، ولكن للأسف من دون أن يقدم البراهين التي وعد بتقديمها ومن دون أن يصوّب الخطأ الذي أشاعه.
سر أو لغز صورة القباني القديمة: لنعترف أولاً أن حياة القباني كانت ومازالت لغزاً غامضاً أمام الباحثين، ولاسيما تلك المتعلقة بحياته في دمشق، ويعود ذلك إلى شحّ المراجع التي تتكلم عن تلك الحقبة الدمشقية، وأن أغلب ما وصلنا ليس إلا قيلاً عن قال…. حتى المعلومات والوثائق التي وصلتنا من مصر كدنا أن نشكك بها، ولاسيما تلك المتعلقة بسفر القباني وفرقته المسرحية إلى أمريكا.. واليوم جاء من يشكك حتى بصورة القباني المتداولة والمتعارف عليها وطرح صورة بديلة لا نعرف حقيقتها أو حتى مصدرها..
بدأت المشكلة وفي رأيي الشخصي عندما تم تقديم عرض «سهرة مع أبي خليل القباني» للراحل سعدالله ونوس، إخراج الأستاذ أسعد فضة، منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فقد استدعت الضرورة استخدام صورة للقباني، ولكن كيف لنا أن نحصل عليها وهي غير متوافرة أصلاً؟ لذلك، وحسب اعتقادي، فقد تم الاعتماد على الصور التي تم نشرها سابقاً: نشرت صورة القباني وللمرة الأولى في القاهرة عام 1904 من قبل تلميذه محمد كامل الخلعي، «كتاب الموسيقا الشرقي». وبعد نصف قرن، أي في عام 1954 وفي دمشق، قام أدهم الجندي باعتماد الصورة نفسها التي نشرها الخلعي في كتابه «أعلام الأدب والفن».
أعتقد جازماً أنه من أجل تقديم صورة القباني غير المتوافرة في حينه، تم الاعتماد على أحد هذين المرجعين لرسم صورة للقباني، وقد قيل الكثير عن هذه الصورة التي مازالت ماثلة حتى الآن على مدخل مسرح القباني في دمشق: فهناك من يقول إنها للمرحوم نجاح المرادي، ويؤكد آخرون على أنها للأستاذ محمود جركس الذي أسند إليه دور القباني في هذا العرض… لكن إذا أمعنّا النظر ملياً بالصورة الموضوعة على مدخل مسرح القباني نرى أنها منقولة وبشكل غير دقيق وغير احترافي عن صورة القباني الأصلية، ولا أدري صراحة ما السر الذي دفع وزارة الثقافة والممثلة بمديرية المسارح والموسيقا في الماضي وكما الحاضر إلى تبني صورة غير صورة القباني الحقيقية، فقد ساهم هذا الإجراء في خلق إرباك حقيقي فيما يتعلق بنقل الحقيقة… حقيقة صورة القباني الأصلية.
سر أو لغز صورة القباني «المكتشفة حديثاً»
وها هي صورة أخرى تظهر للقباني بعد أكثر من قرن «لتزيد الطين بِلة»…. لكن من أين أتت هذه الصورة، ومن الذي تبناها، وهل تعود هذه الصورة للقباني حقاً؟
يقول الدكتور عجاج سليم، ولا أدري من أين حصل على هذه المعلومة: «إنها الصورة الوحيدة التي تم التقاطها له في شيكاغو عندما شارك مع فرقته المسرحية وقدم عروضه هناك»…. نستطيع من خلال هذه الصورة أن نقدّر عمر القباني بين الـ40-50 عاماً، لكن عمر القباني خلال سفره لشيكاغو كان 60 عاماً، فالمراجع التي بين أيدينا تقول: إن القباني ولد عام 1833 وتوفي 1903… وسفره إلى شيكاغو تم عام 1893 والصورة التي نشرها تلميذه كامل الخلعي هي الأقرب لعمر الـ 60 التي يعتقد أنها التقطت في شيكاغو… ثم كيف لتلميذ عمل وعاش لسنوات بالقرب من معلمه أن ينشر صورة غير صورة القباني الحقيقية؟
لكن من أين أتت هذه «الصورة الجديدة للقباني»؟ تبين من خلال التقصي أن أول من نشر هذه الصورة هو الأستاذ عبد الكريم عبد الرحيم في كتاب «البحث عن إبداعات أحمد أبي خليل القباني الموسيقية»، وهو من منشورات وزارة الإعلام السورية، وقد تم نشره عام 2000 على هامش مهرجان الأغنية السورية السابع، واللافت أن صورة الغلاف الخارجية للكتاب جاءت للصورة المتعارف عليها للقباني، أما الصور الثانية التي تبناها الدكتور عجاج، فقد وضعت ضمن الصفحات الأولى من هذا الكتاب، لكن من دون ذكر أي شيء عنها أو عن اسم صاحبها. ولو حدث واستدعينا مختصين بعلم الصورة سيقرّون بشكل حازم أن الصورتين تعودان لشخصين مختلفين.
وقبل أن ننهي نقاشنا… أتساءل: ما الذي يدعو الدكتور عجاج إلى تبني صورة من دون تقديم أي شيء يثبت حقيقة مصدرها؟ وما الذي يدعو وزارة الثقافة الممثلة بمديرية المسارح والموسيقا إلى تبني -وللمرة الثانية- صورة للقباني غير موثقة ووضعها على موقعها في صفحات النت؟ (لقد مضى أكثر من عام على اختيار هذه الصورة على موقع مديرية المسارح والموسيقا)، كان الأجدر بها كمؤسسة مسرحية رسمية، عمرها تجاوز النصف قرن، أن تعمل على نشر الحقائق، وتحقيق المصداقية، بدلاً من خلق بلبلة نحن في غنى عنها وتحديداً في ظل ما تعيشه البلاد من أزمة تتعلق بمناهج التعليم المدرسية!
في الختام… أود أن أبوح بكلمتين الأولى تتعلق بأسباب اختيار نص «سهرة مع أبي خليل القباني» لونوس ليكون أول عرض تخرج لطلبة التمثيل من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، كان ذلك عام 1981 وبإشراف الأستاذ المرحوم فواز الساجر الذي أصرّ آنذاك على اختيار هذا النص المسرحي من أجل إحياء وتمجيد رائد المسرح العربي من جهة، ومن جهة أخرى، من أجل أن يبدأ الخريجون الجدد حياتهم المهنية باستعادة تراثهم وتوثيق الأواصر بين البدايات والحاضر… وقد زيّنت خشبة المسرح آنذاك بصور القباني المتعارف عليها.
ودعوني بالكلمة الثانية أن أبوح بسر، سر سينعش قلوب ومحبي القباني وأيضاً قلوب من يعمل بالحقل الثقافي والمسرحي… فبعد أشهر من الآن ستشهد الساحة الثقافية والمسرحية بحوثاً علمية موثّقة وبشكل دقيق ستغير بعضاً أو حتى الكثير من المفاهيم عن القباني وعن حياته التي وهبها للفن المسرحي وستضع هذه البحوث العلمية حداً للّغط وللشائعات المتعلقة بمرحلة البدايات الدمشقية وحتى تلك المتعلقة بسفره إلى أمريكا….
أخيراً…. وجب القول إن أحمد أبا خليل القباني يعد أحد أهم رموزنا الوطنية وأحد أهم أيقوناتها ولا ينبغي التعامل معها أو مع أي شيء يخصها إلا بمسؤولية عالية.