عام
د. عادل عبد السلام (لاش) : يوم الحداد الشركسي
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
يوم الحداد الشركسي
مقتبس وملخص من السيرة الذاتية للأستاذ الدكتور عادل عبدالسلام لاش
عضو أكاديمية العلوم الشركسية العالمية
في مثل هذا اليوم قبل قرن ونصف، وبالتحديد في 21 أيار من عام 1864، أنهت روسيا القيصرية تصفية شعب الشركس النبيل الذي وصف بلومنباخ وقال عنهم”أن الشركس هم أقرب البشر من النموذج الإلهي الأصلي للإنسانية”
The Circassians were the closest to God’s original model of humanity “.
وهو يوم يحيي فيه شراكسة العالم في الجمهوريات الشركسية في روسيا الاتحادية وتركيا وسورية والأردن وألمانيا وأمريكا وغيرها ذكرى الحرب العدوانية العنصرية، والاحتلالية (الاستعمارية) الاستيطانية الظالمة, وعمليات التطهير العرقي التي شنتها روسية القيصرية على الشركس وبقية شعوب القفقاس، والإبادة التي مارستها عليهم قرابة 142 سنة . بدأت عام 1722 بمعركة شيشن التي هزم فيها الروس، وانتهت عام 1864 بمذبحة وادي أختشبسو ، أو اختشيبس، أو أتشيبس، التي ترد في المصادر العربية تحت اسم آخجب ( القريبة من كراسنايا بوليانا اليوم ) في وادي نهر مزمتا، الى الشرق من شاتشة (صوتشي ) مسافة 35 كم على البحر الأسود. وقد ارتكبت القوات الروسية هذه المذبحة كواحدة من مئات المذابح والمجازرالمروعة قبلها، وذلك في يومي 20 و21 من شهر أيار من عام 1864. وقد تقرر منذ عام 1991, إحياء يوم 21 من أيار، يوم حداد لشعب الأديغة (الشركس) في الوطن الأم وبلدان المهجر وحفلاً لتكريم الشهداء الشركس وإحياء ذكراهم. والسبب الرئيسي هو الموقع الجغرافي لمواطنهم الداخلية البعيدة عن البحر الأسود وسواحله. إذ تركزت الاستراتيجية التوسعية الروسية سابقاً وحتى اليوم على الوصول إلى بحار المياه الدافئة (البحر المتوسط، والخليج العربي والمجيط الهندي)، ولما كانت السواحل الشمالية الشرقية والشرقية للبحر الأسود شركسية، كان على الروس الاستيلاء على بلاد الشركس، ولكن بدون الشركس.
وكانت معركة نهر غويدليخ في 18 آذار من سنة 1864 أخر أكبر معركة ضد الغزاة الروس، التي هزم فيها الشركس، وفتحت الطريق أمام الجيش الروسي والقوزاق للتوغل في مناطق قبائل الشابسيغ والوبيخ والجكيت الشركسية، دون مقاومة تذكر بعد استشهاد آلاف المدافعين الشركس في المعارك السابقة. لقد أحرق الجيش الروسي كل إنسان وحيوان، و كل تجمع سكاني ومنزل ومزرعة والمحاصيل والبساتين، حتى أصبحت الأرض و جثامين البشر والمواشي بالفعل رماداً. أما خاتمة الكارثة والإبادة الشركسية فتأخرت حتى 21 آيار من السنة ذاتها.
ويتحدث شوكت المفتي عن المجزرة الأخيرة وإبادة المدنيين الشراكسة على يد الجنود الروس وحلفائهم القوزاق ، فيقول في الصفحة 203 من كتابه (أباطرة وأبطال في تارخ القوقاس) الصادر في القدس عام 1962 فيقول:
” وهذه المنطقة الجبلية الوعرة كانت آخر معقل اجتمع فيها النسـاء والأولاد ليحتموا من الغارات. وأما النساء فقد ألقين بزينتهن في النهر وأخذن السلاح، لخوض معركة الموت من أجل الشرف، حتى لا يقعن أسرى وسبايا بأيدي الروس. وعلى هذه الصورة التحم الفريقان في معركة هائلة فكانت مجزرة بشرية لا مثيل لها في التاريخ.
ولم تكن الغاية من هذه المعركة بالنسبة للقوقاسيين إحراز أية موفقية أو نصر. بل الموت بشرف، والخلاص من الحياة التي لم يبق منها أي أمل، بشرف ! . . . وقد تذابح في هذه المعركة الرهيبة الرجال والنساء بلا رحمة, وكانت الدماء تسيل كالأنهار، حتى قيل أن جثث القتلى كانت تسبح في بحر من الدماء. ورغم ذلك كله لم يكتف الروس بما جنت أيديهم، ولم يشبعوا غرائزهم الوحشية، فجعلوا الأطفال الذين تبقوا، هدفا لنيران مدافعهم، وقتلوهم جميعاً بعد ما ربطوهم ببعضهم البعض وأطلقوا عليهم النار بالجملة.”ا ﻫ.
ولقد كتب أحد الضباط الروس الذي شارك في العملية في مذكراته قائلاً “إن كارثة من هذا المقياس نادرة الحدوث لبني البشر”.
سبقت هذه المذبحة مئات المذابح والمجازر المروعة التي قام بها الروس بوحشية وشراسة لا توصف، في القرى والبلدات الشركسية والقفقاسية الأخرى، التي أحرقت بالمئات، وهدمت دورها وخربت جميع منشآتها العمرانية والاقتصادية والدينية- ودورالعبادة الإسـلامية- ، كما قتل شيوخـها و رجالها وذبح أطفالها وانتهكت أعراض نسائها علناً ثم قتلن، أما النساء الحاملات فقد بقر الجنود الروس والقوزاق بطونهن بالحراب أو ذبحن ذبح النعاج ، ولم تنج حيوانات القرى الشركسية من القتل، ومياه الشرب من التلويث والتدنيس بالبول والغائط. وقد وصف الشاعر الروسي ليرمنتوف في قصيدته (اسماعيل بك) ذلك بقوله:
تحترق القرى فليست لها حماية
ومثل الحيوان المتوحش يغرز
المنتصر حربته في البيت المتواضع
ويقتل الشيوخ والأطفال
والفتيات والأمهات البريئات
ويلعق يده الملوثة بالدم ” ( انتهى الاقتباس)
إن التخريب والتدمير الهمجيين والإبادة الجماعية للشراكسة والقتل على الهوية والتصفية العرقية وارتكاب أبشع أشكال الجرائم وتجاوز جميع الحقوق والأعراف الإنسانية بهدف القضاء التام على الشعب الشركسي بأكمله ومحوه من الوجود من قبل روسيا في القرن التاسع عشر، يفسرملابسات فاجعة التهجير وكارثة إخراج من بقي حياً من الشراكسة من ديارهم في الذين تشتتوا في مختلف بلدان العالم، مثلهم مثل بقية الشراكسة الذين يعيشون في أكثر من خمس و أربعين دولة اليوم.
ولمعرفة حجم المأساة الشركسية وأبعادها يكفي أن نعرف أن عدد سكان شركسيا (أديغيا الكبرى) قبل بداية الغزو الروسي كان يربو على 5.000.000 نسمة، ومساحة بلادهم بحدود350.000 كم مربع، أبيد نحو 2.000.000 منهم ويقدر من تم تهجيره منهم حتى عام 1864 بنحو 1.800.000 نسمة، بحسب تقديرات (ميخوف-بلغاريا، ص 255) وعدد من بقي منهم تحت الحكم الاحتلالي الاستيطـاني الروسي لا يزيد على 106.798 شركسياً غربياً عام 1865. أما الشراكسة الشرقيون فكان عددهم الإجمالي بحدود 350.000 نسمة. أي أن من بقي حياً من الشركس بين مقيــــــــــــــم (456.798 نسمة ). لكن واقع المأساة هو أكبر بكثير، إذ أن هذه الأرقام هي من الجانب الروسي أو أنصاره. فأرقام الشهداء والضحايا في المعارك وأعمال الإبادة الروسية تفوق 2.300.000، أما أعداد المهجرين فكانت بحدود 2.000.000 شركسي بحسب التقديرات الشركسية والعثمانية .
تظهر هذه الأرقام فداحة الفاجعة وحجم الخسائر البشرية التي لحقت بالأمة الشركسية في مقاومتها الغزو الاحتلالي (الاستعماري) الروسي على امتداد قرن ونيف، والتي أودت بأرواح أكثر من 2.300.000 شهيد، لم يسمع عنهم العالم شيئاً ولم يعرهم العالم الإسلامي أي اهتمام حتى بعد تهجيرهم وانتشارهم في ديار الشتات، أي (بعد خراب البصرة أو مالطة). إضافة إلى قرابة 950.000 شركسي ماتوا على دروب التهجير( غرقاً في البحر، ومرضاً وفتك الأوبئة والقتل في البلقان والأناضول)، وهذه الحقائق مجهولة إلا لمن يهمهم الأمر. وكانت صحيفة (نيو نيويورك تايمز) الصادرة في 23 آب سنة 1879 مقالاً دعت فيه للشركس بـ ” الأمة المقتولة Murdered Nation “، هي الأولى في هذا المجال.
ليست النيتة تأريخ الحرب الشركسية- القفقاسية – الروسية ومأساة التهجير الشركسي، لكن طبيعة الأمور والحديث عن وجود الشركس في الشتات ، وكي لا ينسى الأبناء والأحفاد من الأجيال الشركسية القادمة ماضيهم، ويبقى ماجلبه لهم الروس من دمار وإبادة راسخاً في مورثاتهم (جيناتهم)، وجارياً في دمائهم. والمناسبة الأليمة دعت إلى سطر هذا الموجز.
دمشق 21 أيار 2014