قراءة في كتاب
كتاب “تطور المجتمع السوري” نظرة جديدة للوطنية السورية
سالم الأخرس- جيرون
يكشف كتاب (تطور المجتمع السوري 1831\2011) لنشوان الأتاسي الصادر عن دار أطلس بيروت، عن بدء تبلور اتجاه جديد في الحياة الثقافية والفكرية السورية التي اتخذت مسارًا بعيدًا عن الأجواء الثقافية “الرسمية” المؤسسة على فلسفة “التأميم” عمومًا.
فموضوع ومنهج ومسارات الكتاب، التي طمح الكاتب لرصدها بوصفها ملامح لتطور المجتمع السوري، تتناغم مع إرادة التغيير التي عمّت المجتمع السوري في العقد الأخير؛ حيث أصاب الكاتب في حسبانه الفترة الزمنية الممتدة بين (1831-1840)، والتي شهدت حملة ابراهيم باشا على سورية، الزمن الذي بدأت فيه رياح التغيير تهب على المجتمع “السوري”، لما رافق تلك الفترة من إجراءات وتغييرات في نظام تحصيل الضرائب وطرق الانتفاع من الأراضي الزراعية، ومصادرة أراضي الأعيان وإعطائها للأعيان الجدد، وفرض التجنيد الإلزامي على “الرعايا” دون تمييز في المذهب والدين، بطرق “سلطانية” تعسفية، أدّت الى كسر حالة الركود التي عاش فيها المجتمع “السوري”.
التغيير الذي بدأ مع الحملة المصرية لم ينته بانهيارها، بل أن رياحًا أخرى هبّت من الأستانة عبر المراسيم العثمانية الإصلاحية، وكان لها تأثيرات عميقة على المجتمع “السوري”، لم يتوقّف الكاتب عندها، رغم ما لها من دلالات عظيمة، مكتفيًا برصد إحدى تداعياتها عام 1860 بدمشق، وتقديم عرض رصين لها، مستندًا في عرضه الى أبحاث فيليب خوري العميقة والعلمية، والتي خلُصت الى عدّ هذه المرحلة بداية تشكل ونضوج ظاهرة الأعيان والوجهاء المحليين، الذين ساهموا في بناء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة لسورية. وهذه الرؤية تنسجم مع المناهج الحديثة “الزمن المديد” في دراسة الظواهر الاجتماعية والتاريخية، التي تتجنب التقسيمات التأريخية على أساس التغيرات السياسية، محافظةً على مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية ضمن الصيرورة الطبيعية؛ مع رصد العوامل والأسباب التي أدّت الى الانتقالات الجديدة.
وقد تمكن الأتاسي من رصد التحولات الكبيرة التي طرأت على طرق وأساليب التعامل مع الأراضي الزراعية والملكيات، وظهّر المرتسمات الطبقية التي رافقتها، لكنه لم يتمكن من التقاط العوامل والأسباب التي أدّت الى انتقال الملكيات من مرحلة الانتفاع بالرقبة الى ملكية الرقبة.
برع الكاتب في استخدام المنهج الطبقي، إذ حرّره من النظرة الأحادية التي سادت في سورية، منذ خمسينيات القرن الماضي، وأغناه بالتأثيرات الثقافية والدينية والفروقات الاجتماعية والفكرية التي تصاحبها في المدن والأرياف، وبخاصة المرتسمات العشائرية والقبليّة، حيث قدّم تحليلًا مكثّفًا للتجربة “الفيصلية” في سورية، كإحدى نتاجات “الثورة العربية الكبرى”، راسمًا أهم التكوينات الاجتماعية والسياسية الناشطة فيها، إلا أنه لم يخض في الاستنتاجات والدلالات السيادية لهذه التجربة العربية المعاصرة الأولى. فهذه التجربة “المجهضة” أسفرت عن مجموعة من المفاهيم والقيم السياسية والاجتماعية التي تستحق القراءة والبحث، ولاسيما مفهوم السيادة العربية المعاصرة وعلاقتها بمفهوم الدولة، الذي ظهر لأول مرة حينها. وكذلك ظهور المؤسسات اللازمة لقيام الدولة والنواظم القانونية لها، ووظيفة هذه الدولة في المجتمع المحلي والخارجي. ففي ذلك المناخ وضمنه ظهرت أولى ملامح العلاقة بين مكونات المجتمع والفعل السياسي، وآليات تحديد التوجهات السياسية العامة، كما لم يغب عن التجربة الفيصلية، ملاحظة نظام الضرائب، ومنظومة الملكيات الزراعية وأهمية النقد ودلالاته السيادية، والتي تشكّل بمجملها أهم أسس الاقتصاد السياسي والاجتماعي.
ولعل عدم توقف الكاتب عند هذه المفاهيم المنهجية -بخاصة السيادة والسلطة وعلاقتهما بالدولة- نمَّ عن عور في عديد من التحليلات التي عرضها الكتاب، منها –مثلًا- العرض المكثف لمرحلة الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان؛ إذ تبنّى الكاتب التصنيفات والتمايزات التي قدمها فيليب خوري في كتابه (سوريا والانتداب الفرنسي، سياسة القومية العربية 1920-1945)، والتي بُنيت على أساس تصنيف السلوك السياسي للنخب السورية حيال الانتداب: (معادي. مقاوم. متعاون. تعاون مشرّف) وقد يكون هذا التصنيف صحيحًا، لكنه قاصر اذا ما تمّ الاكتفاء به، فمن دون إدراك مفهوم السلطة بمعنى (حق الأمر وواجب الطاعة) وتدرجاتها وضرورة وجودها في أي اجتماع، وكذلك إدراك مفهوم السيادة كجامع سياسي عام يرسم خيارات المجتمع، وينظم حدود روابطه المتنوعة، والمظاهر المتنوعة التي يتجلى بها، بتنوع المصالح وتعدد الرؤى للمصالح والضرورات، لا يمكن معرفيًا جسّ نبض النشاط السياسي العام، وهذا ما عبر عن نفسه في تفشي ظاهرة التصنيف السياسي تحت مندرجات: عميل وخائن، ووطني وشريف…إلخ منذ بدء العمل السياسي السوري المحلي، وبلغت هذه الظاهرة درجة من الابتذال والانحطاط لا تعريف لها في قاموس السياسة الحديث. وبالكاد نعثر على شخصية سورية عامة وبارزة -منذ أوائل القرن العشرين وحتى الان- لم تُقذف بصفات العمالة والخيانة في زمن حضورها، والى ما بعد الوفاة، حتى وصل الأمر في الستينيات من القرن الماضي الى إلحاق هذه النعوت بطبقة كاملة، أو أكثر من طبقة. واليوم نراها تطال المتحدات الاجتماعية السورية من طوائف وعشائر وتجمعات…؛ حتى غدت الحياة السياسية السورية، وكأنها لا تنتج سوى الخونة والعملاء!!
عانى الكتاب ضعفًا في تحليل الحالة السورية -زمن الاستقلال- بحيث لم يستطع تظهير الديناميات الداخلية التي بدأت تنمو داخل المجتمع السوري عامة، وبقلب النخب السياسية والعسكرية خاصة، فمع الاستقلال تغيّر سقف مفهوم السيادة عند الجميع، وراحت جميع الفعاليات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية تتوضّع على الأرض، في ضوء الحالة الجديدة لمفهوم السيادة، وما يستتبعه من أفكار وتصوّرات لمفهوم السلطة وكيفية ممارستها، وبالتالي؛ شكل الدولة وقواعد عملها، والأهداف المنوطة بها.
فلقد انفتح الفضاء السوري العام على أفق جديد، وبدأت تظهر علامات مختلفة في حقل التنوعات السياسية، الحزبية وغير الحزبية (المستقلين)، فالكتلة الوطنية التي قادت حركة الاستقلال، تعددت مشاربها السياسية مع الاستقلال، والأحزاب التي كانت في طور “الشباب” أخذت تفرض رؤاها على الحياة السياسية، داخل البرلمان وخارجه، والتجمعات الأهلية من عشائر وأقليات بدأت تبلور مطالبها وتحدد “حقوقها”، وقد عكست هذه التبدلات نفسها في التعديلات الدستورية على دستور 1930 وفي عمليات الاصلاح الإداري وتنظيم ملاكات الوزارات عام 1946 والتي كان من أهمها وأخطرها ملاك وزارة الداخلية؛ حيث رُبطت الحياة السياسية والحزبية والتجمعات العامة والصحافة، بصلاحيات وزير الداخلية،(انتقلت هذه الصلاحيات مع تجربة البعث الى وزارة الدفاع عمليًا). كما أظهرت انتخابات عام 1947 النيابية، المرتسمات الجديدة للقوى الاجتماعية والسياسية، وكشفت -أيضًا- أجواء المهازل والفضائح التي رافقتها، وأظهرت طبيعة التصورات لمفهوم السلطة ووظائفها وآليات العمل “الديمقراطي”.
وجاءت حرب فلسطين لتكشف معاني السيادة السورية وحدودها الجغرافية، ولتظهر -بوضوح ثقيل- دور القوة العسكرية في تحديد ملامح السيادة ومجالها، وتكشف عن تعدد المستويات التي تتحقق فيها هذه السيادة. الأمر الذي أسس لنمط جديد في الفكر والممارسة السياسية، لم تكن تعرفه الحياة السياسية السورية، وما زالت أثقاله تتحكم بالسياسة والفكر حتى الان؛ وهو تحكم الجيش بالسياسة.
لقد تضمّن الكتاب موضوعات كثيرة تستحق النقاش فيها، خاصة مرحلة تسيّد الضابط حافظ الأسد في مقالات مستفيضة لا يتسع لها المجال في هذه العجالة.
للكتاب بصمة واضحة ومؤثرة تنم عن رؤية سياسية سورية جديدة، غير مسبوقة، على صعيد العمل السياسي والحزبي في سورية.