مقالات
العبقري محمد باشا العابد.. آخر سفير عثماني من العرب
ولاء خضير – ترك برس
كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، يدرك أهمية العنصر العربي في دولته، ويدرك أن العرب هم هدف التوسع الأوربي الاستعماري، ومحل إغرائهم بالانفصال عن الدولة العثمانية، فأجتذب العرب الى صفه، واتبع في سبيل ذلك وسائل مختلفة.
فكان السلطان يقرب إليه أهل الكفاءة والخبرة، ويحيط نفسه بذوي القدرة والأمانة، وكان من أشهر هؤلاء العرب، أحمد عزت باشا العابد، الذي شق طريقه في بلاط السلطان، حتى صار أقوى موظف في الدولة العثمانية، ومن أعظمهم جاها ونفوذا.
أما ابنه محمد علي بن أحمد عزت باشا، يُعد أول رئيس جمهورية في سوريا، 1932-1936، وُلد في دمشق عام 1867، وذكرنا أن الده أحمد عزت باشا العابد، (1855-1924) كان المستشار السياسي للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ومن أصحاب النفوذ في الدولة العثمانية.
ولد محمد بدمشق، وبدأ دراسته الابتدائية بالكتاتيب، والمدارس الدينية المتوافرة في ذلك العصر، وفي عام 1885 انتقل إلى بيروت، حيث تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، الذي كان منفياً إليها، وقد درس على يديه علوم العربية، من نحو، وصرف، وفقه، وحديث، وتفسير، إضافة إلى الأدب والشعر.
ولما انتقل والده إلى الأستانة العثمانية، للعمل في بلاط السلطان عبد الحميد الثاني، بلغت شهرة والده “عزت العابد”، وكفايته، إلى أسماع السلطان عبد الحميد، ضمه إلى معاونيه ومساعديه، وكان السلطان يقرب إليه أهل الكفاءة والخبرة، ويحيط نفسه بذوي القدرة والأمانة.
وانضم والده”العابد” إلى بلاط عبد الحميد كاتبا خاصا له، وعهد إليه السلطان بعضوية اللجان المالية وغيرها، ولما وثق السلطان به، قربه إليه وجعله موضع سره، وبلغ من توطد الصداقة بينهما أن السلطان عبد الحميد الثاني قال عنه: “الصديق الحميم الذي وجدته في النهاية”.
وفي أثناء الفترة التي لازم فيها “العابد” السلطان عبد الحميد، وهي مدة بلغت ثلاثة عشر عاما، قام بأعمال جليلة، حسبه أن يكون من بينها إشرافه على تنفيذ خط سكة حديد الحجاز، وإنشاء خط التلغراف بين أزمير وبنغازي، وبين دمشق والمدينة المنورة.
وأتم محمد الباشا خلال هذه الفترة دراسته في مدرسة “غلطة سراي”، حيث أتقن بالإضافة إلى العربية لغته الأم، اللغتين التركية والفرنسية إتقانًا تامًا، كما أجاد الإنكليزية والفارسية، وأحاط بعلوم التاريخ والاقتصاد والأدب الفرنسي، ثم درس أصول الفقه الإسلامي، بعدما درس الفقه الروماني والتشريع الأوروبي.
مكنت هذه المؤهلات العابد – بالاضافة إلى نفوذ والده وقربه من السلطان- من التدرّج في مناصب وزارة الخارجية العثمانية، فبعد عودته من فرنسا عام 1905م، عُيِّن مستشارًا قانونيًا في الباب العالي، ثم عُين سنة 1908م وزيرًا وسفيرًا مفوضًا للدولة العثمانية في واشنطن، فقصدها مع زوجته وأولاده.
ومن أهم إنجازته، أصدر محمد جريدة أسبوعية بالعربية والتركية، أسماها (دمشق). وكان دائم الدفاع عن الدولة العثمانية في جريدته، بالإضافة إلى كثرة افتخاره بمآثر العرب، وفضائلهم فيها.
ثم جاء انقلاب الضباط الأتراك، وجمعية الاتحاد والترقي، ليقلص من صلاحيات السلطان، وآل العابد في نفس العام، قبل الاطاحة بالسلطان عبد الحميد نهائيًا، في عام 1908م.
غادر البلاد العثمانية بعد انقلاب 1908، فذهب إلى لندن، ثم أخذ يتنقل بين إنكلترا وسويسرا وفرنسا، وأقام في باريس، مع عائلته حتى عام 1919م، وحين عاد إلى دمشق، وانخرط في العمل السياسي، أصبح عام 1923 وزيراً للمالية. وفي عام 1932م، رُشّح لرئاسة الجمهورية السورية، على قائمة الكتلة الوطنية، ففاز بها ضد مرشح الفرنسيين صبحي بركات.
كتب عنه محمد كرد، علي رئيس المجمع العلمي بدمشق، فصلاً في مذكراته بعنوان: “أول رئيس جمهورية في سورية”، فقال: “وهو أعظم رجل سياسي عرفته الديار الشامية في دورها الأخير، وأول وآخر سفير عثماني من أبناء العرب، استوفى شروط الرئاسة لمعرفته التامة بالشؤون السياسية.
ولا عجب في ذلك، فقد كانت بيئته من أرقى البيئات في الأستانة إبان صولة أبيه، فقد كُتب له، أن يجتمع إلى عظماء الدول وعلماء الأمم، في ما لم يكتب لأحد من رجالنا مثله، فقد كان ذا معرفة ثاقبة بتاريخ أمته، وذاكرته قوية، إذ كان كثيرًا ما يتلو علينا قطعاً من الأدب العربي، والفرنسي حفظها أيام الصبا.
وكان إضافة إلى هذا، على جانب من الظرف والكياسة واللباقة، وكان ينفق من ماله الخاص على القصر الجمهوري، ليظهر بلاده أمام القريب والبعيد بالمظهر اللائق.
كان محمد علي العابد متواضعاً أشد التواضع، فعلى الرغم من معرفته بما تقتضيه رئاسة الجمهورية من مراسم ورسميات، لم يحرم نفسه من الاستمتاع بحريته، يزور أصحابه كما يزورونه، ويعاشرهم معاشرة الإخوان.
وكانت تُعقد في داره، جلسات تضم كبار القضاة، وأساتذة الجامعة، وأعضاء المجمع العلمي، وغيرهم من أهل الفضل والعلم والثقافة، يتناقشون ويتذاكرون في موضوعات أدبية وسياسية واجتماعية ودينية.
وقد قال فيه أحد المثقفين “لم أر طوال حياتي، رجلاً اسمه أصغر من حقيقته، مثل محمد علي بك العابد.