شهادات ومذكرات
شهادة الشهيد الحي إبراهيم الشلاح حول مجزرة البرلمان 1945
شهادة الشهيد الحي إبراهيم الشلاح:
في التاسع من حزيران عام 1945 استدعى المفوض يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق الشرطي إبراهيم الشلاح إلى مقر شرطة دمشق، مخفر المركز بناء على أمر من مديرية الشرطة العامة القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم الشلاح، وأعد المفوض يوسف سقاباشي التقرير التالي:
«في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الموافق في التاسع من شهر حزيران 1945 نحن مفوض المركز يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق نثبت ما يلي: بناء على أمر مديرية الشرطة العامة، القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم شلاح رقم 287 الذي أصيب بجروح مختلفة ضمن البرلمان أثناء الحوادث الأخيرة، وعليه فقد ذهبت إلى مستشفى الإيطالي وقد شاهدته ممدداً على فراشه وهو مصاب بجروح في رأسه وأنفه ويده وساقه وعليه فقد بوشر بالتحقيق معه على الوجه التالي:
هويته: اسمي إبراهيم إلياس الشلاح من سكان محلة باب توما رقمي 287 شرطي في مجلس النواب عمري 35 سنه متأهل ولي أولاد متعلم سوري.
إفادته: حدثنا عن كيفية مصرع المفوض سعيد القهوجي ورفاقه وأسباب الحادث الذي أصبت فيه.
فأجاب: في مساء يوم الثلاثاء الواقع في التاسع والعشرين من شهر أيار 1945 بينما كنت في البرلمان مع بقية المراتب وعلى رأسنا المفوض سعيد القهوجي، وكان اجتماع لمجلس النواب يعقد بالبرلمان في الساعة الخامسة، وإذ بسلطة إفرنسية من الأركان الحربية ترسل إنذاراً إلى الحامية الموجودة في البرلمان من الدرك والشرطة بوجوب أخذ التحية الرسمية للعلم الفرنسي حين إنزاله من على بناء الأركان الحربية وإلا فالسلطة المذكورة مضطرة لإطلاق النار وبالحال انفضت جلسة مجلس النواب لأنه لم يكتمل النصاب القانوني.
وفي الساعة التاسعة عشرة أنزل العلم الفرنسي ولم يأخذ الشرطة أو الدرك التحية الرسمية للعلم الفرنسي، وبعد برهة عشر دقائق بوشر بإطلاق الرصاص والقنابل وغيرها من الأسلحة المتفجرة على البرلمان من جميع أطرافه، أخذنا بالرد عليهم بالمثل حتى نفدت الذخيرة فدخلنا إلى قاعة البرلمان الداخلية ودام إطلاق الرصاص والمتفجرات حتى الساعة العشرين والنصف تقريباً بشكل متواصل.
وفي هذه الأثناء طلب مني السيد شفيق المملوك قائد الدرك الصعود إلى الطابق العلوي لإسعاف الجرحى فأخذت معي ثلاثة من الدرك وبينهم السيد ياسين البقاعي وزحفنا كي لا نصاب بشظايا القنابل، أنزلنا الجرحى وأثناء نزولنا أصيب السيد ياسين البقاعي بطلقة رصاص في رأسه وتوفي في الحال، وأخذنا بإسعاف الجرحى في الصالون بوسائل بدائية ومن بين الجرحى زميلي السيد محمد مدور الذي أصيب بشظايا قنبلة، واستمر إطلاق النار حتى تهدمت واجهة بناء المجلس النيابي فسألت عن المفوض السيد سعيد القهوجي فقالوا إنه خرج إلى الحديقة فتبعته ووجدته مع اثنين من الشرطة وهما السيدان مشهور المهايني ومحمود الجبيلي، وإذ بالدبابات والمصفحات تهجم من الباب الخلفي الحديدي وبرفقتها مشاة من السنغال وهم يطلقون النار وكنا أربعة، مشهور المهايني ومحمود الجبيلي وسعيد القهوجي وأنا، واتجهت الدبابات إلى باب المجلس الداخلي وأخذوا يطلقون النار عليه حتى تهدم فخرج رجال الدرك والشرطة الموجودون في المجلس فإذا بالجنود الفرنسيين يطلقون عليهم الرصاص والرشاشات، وما زلنا نسمع أصوات الاستغاثة والأنين وإذ بخمسة من رجال الدرك يدخلون إلى القبو حيث نحن موجودون من النافذة الخلفية، وقد شوهدوا من قبل الجنود الفرنسيين فاتجهت أنظارهم إلينا وأخذوا يطلقون نيران أسلحتهم وكانت ذخيرتنا قد نفدت وطلب منا قائد الحامية الفرنسية الخروج فخرجنا رافعين أيدينا إلى الأعلى فتقدموا منا وأخذوا ينحروننا ويفتشوننا وكانوا يأخذون الأشياء الثمينة كالساعات والخواتم والنقود وغيرها وحاول أحد الجنود أن يخرج خاتماً من إصبع أحد الدرك فلم يستطع إخراجه فما كان منه إلا أن ضربه بساطور على مفصل إصبعه فقطعه وأخرج الخاتم وصاح الدركي من الألم وللحال ضربوه بالرصاص من الرشاشات وما زلنا ننتظر مصيرنا حتى فرغوا من تفتيشهم، وصفونا نحن الثمانية: أربعة من الشرطة وأربعة من الدرك، صفاً واحداً وأخذوا يطلقون الرصاص من بنادقهم وسقطنا جميعاً على الأرض وكانوا يضربون كل فرد يتحرك إذا وجدوه لا يزال حياً.
وكان نصيبي من هذه الرصاصات رصاصة دخلت في ثديي الأيسر وخرجت من ثديي الأيمن وأخرى في خاصرتي والثالثة في يدي حطمت عظم مشط الكف وحين حركت رأسي ضربني أحد الجنود السنغال على رأسي محاولاً قطعه فأصابني في أنفي وأخذ الدم يسيل على وجهي وحين حركت يدي من دون شعور داس أحدهم عليها بحذائه العسكري فلم أعد أتحرك أبداً وضربني ضربة أخيرة من بسطاره على رأسي لكي يتأكد من موتي وبقيت محافظاً على وعيي الكامل على الرغم من كل هذه الإصابات التي أصبت بها وذلك حفاظاً على حياتي.
وتوجهوا إلى المفوض السيد سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي في الحال كما قام الجنود بربط أحدهم في شباك البرلمان وأخذوا يضربونه بالحراب في كل أنحاء جسمه حتى فارق الحياة، ثم دخلوا إلى مبنى المجلس فوجدوا السيد عبد اللـه برهان ابن حسين باش إمام فأخرجوه وسألوه عن بقية الأفراد، فقال قتلتوهم اللـه يقتلكم فصاح الجنود تحيا فرنسا فقال فلتسقط فرنسا فما كان من أحد الجنود إلا أن قطع رأسه بضربة ساطور فتدحرج رأسه على الأرض ونفر الدم على باب المجلس ولا يزال أثره موجوداً، وخطا خطوة ونصف الخطوة من دون رأسه ثم سقط على الأرض وكان بدني يقشعر من هول هذه المناظر الوحشية، ثم تركونا وذهبوا إلى جهة البرلمان اليسرى فلويت رأسي إلى الجهة اليسرى، وشاهد حركتي هذه أحد الجنود فأطلق رصاصة على رأسي ولكن اللـه لم يرد إصابتي فلم تنطلق الرصاصة فتركني وذهب.
وفي نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً جاء بعض الجنود ومعهم سيارة كبيرة وأخذوا ينقلون جثث القتلى من الدرك والشرطة فشعرت أنني بينهم وجثث القتلى فوقي وتحتي وسارت بنا السيارة إلى حيث لا أدري وتوقفت السيارة وأخذوا يلقون الجثث في حفرة كبيرة وحينما وصل دوري بدرت مني حركة، فصاح الجندي هذا حي وألقاني على الأرض، وجاء آخر ومد يده إلى عنقي وحسبته يريد خنقي فصرخت فقال هذا حي حقاً خذوه إلى المستشفى وقال آخر ما فائدة نقله إلى المستشفى؟ وطلب أن يصب عدة رصاصات في رأسي حتى يريحني ولكن اللـه سلمني وذهب صوت الجندي هباء، ونقلت إلى السيارة ثم إلى المستشفى العسكري الفرنسي حيث وجدت نفسي بين يدي الأطباء الدكتور صباغ والدكتور شارل والدكتور بيرقدار وبعدها غبت عن الوعي.
وفي اليوم التالي شاهدت الدركي عبد النبي برنية مضروب برأسه بضربة ساطور وفارق الحياة بعد مدة وجيزة. ثم جاءت سيارة الجيش البريطاني ونقلوني إلى المستشفى الإيطالي، وهكذا استطعت أن أروي قصة البرلمان لأنني الوحيد الذي بقي حياً من هذه المجزرة الرهيبة والعمل الإجرامي من قوم يدعون المدنية وينادون بشعار الحرية».