إليزابيث ف. تومسون – ترجمة: يسرى مرعي – معهد العالم للدراسات*
في شهر نيسان من عام 1922 نشر العلامة والمجدد الإسلامي البارز الشيخ رشيد رضا، مقالاً ذا شجون في مجلته الشهيرة “المنار” تتعلق بتجربته كرئيس للمؤتمر العربي السوري قبل عامين من نشر المقال في دمشق، قال فيها إن المملكة السورية أسست ديمقراطية حقيقية:
“وكانت الحرية بجميع أنواعها، ولا سيما حرية الاجتماع، والخطابة، والنشر مما تحسدها عليه سائر البلاد السورية ومصر، وزال من دمشق ما كانت مشهورة به من المبالغة في الحفاوة، والتعظيم للحكام والوجهاء، وشعر الشعب بحرمته وكرامته”.(1)
أظهرت المملكة التزاماً أكبر بمبادئ “العدل… المساواة والإصلاح” من الانتدابين الفرنسي والبريطاني الذين حلّا محلها، وتابع رضا قائلا: “كان غير المسلمين مساوين للمسلمين بكل الطرق. وعلى العكس، كان التعامل مع المسلمين سيئاً في ظل الانتداب.
ادّعى الفرنسيون “إصلاح بلادنا بحجة أننا عاجزون عن النهوض بأمر أنفسنا”، ولكن لم يجلبوا سوى “التعصب والمحاباة والإفساد الأدبي والاقتصادي”(2).
كتب رضا هذه المقالة من مكتبه في القاهرة، بعدما ترك دمشق هارباً إثر اندفاع الدبابات الفرنسية نحو دمشق بعد أيام فقط من مصادقة المؤتمر على الدستور السوري.
أما الدستور العربي السوري لعام 1920، فقد كان الأكثر علمانية وديمقراطية في الشرق الأوسط حتى الآن. وخلافاً لرغبات الملك فيصل، أنشأ المؤتمر السوري فصلاً بين السلطات والضوابط التشريعية في السُّلطة الملكية، كما منح حصةً أكبر من السلطة لحكومات المقاطعات، وضمن مساواة المسلمين وغير المسلمين في ظل القانون وفي حرية المعتقد. ولم يشر الدستور إلى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع ولا إلى الدين الإسلامي كدينٍ رسمي للمملكة (3).
تناولت مقالات رضا في مجلة “المنار”، إنكار العدالة من قبل الانتدابين الفرنسي والبريطاني في بلاد الشام (سوريا الكبرى) والعراق، وقد زودت هذه المقالات الجيل التالي من القوميين العرب بمواضيع مهمة للنقاش. إلا أن القلة القليلة فقط تذكّرت التجربة الدستورية للمؤتمر فيما يتعلق بالمملكة باعتبارها ثورة وطنية ضد مؤتمر باريس للسلام، مثلما اعتُبِر الانتزاع الإيطالي لفيوم (Fiume)، وسقوطها إنكاراً للسيادة العربية والوعد بتقرير المصير(4). واليوم لم يعد الدستور منسياً فحسب، بل يبدو أن الوثيقة الأصلية للدستور قد ضاعت. وبالتالي، فإن دور رضا في المصادقة على دستور علماني كهذا، قد يصدم، وبلا شك، العديدين ممن يعتبرون رضا جَدّ حركة الإخوان المسلمين(5). ذلك أن رضا، على إثر توقيع معاهدة لوزان في عام 1923، التي منحت الانتداب الفرنسي سمةً قانونية، وتلو الإلغاء التركي للخلافة في عام 1924، كان قد رفض الليبرالية كنموذجٍ عالمي للحكم العادل، متبنياً النظام الوهابي السعودي كنموذج لبعث الخلافة العربية. ومالبث أن ألهمَ الشاب حسن البنّا ليؤسس جماعة الإخوان في عام 1928 لتكون حركة تعزز العدالة الإسلامية كمبدأ مختلف وحتى معارض لليبرالية الأوروبية(6).
إنّ استرجاع هذه الحلقة المفقودة في مسيرة رضا السياسية يقدّم منظوراً جديداً حول صعود الإسلام السياسي الحديث بوصفه نتاجاً لظروف عرضية طارئة، وليس تعبيراً حتمياً عن قوةٍ أزلية. إنّ قصةً كهذه، قد تُفاجئ أولئك الذين تابعوا نضالات العرب من أجل قيام حكومة دستورية منذ عام 2011(7). وقد انقسمت التحالفات الثورية في مصر وتونس بشكلٍ كارثي إلى تيارات علمانية وإسلامية فيما أسماه أحد علماء السياسة صراعاً بين الديمقراطيين الإسلاميين والليبراليين النخبويين.(8) إذ أن رئيس مصر محمد مرسي (رئيسها في لحظة كتابة المقال)، لن يعتبر أي حكومة إسلامية إلا إن كانت مستندة إلى الشريعة الإسلامية، وخصومه لن يعتبروها ليبرالية طالما بقيت المادة (2)* سيئة السمعة قائمة. نشأ المأزق في مصر من الانقسام العلماني-الإسلامي الذي كان قد تعمّق في العقود السابقة.
كما تعرض قصة رضا أيضاً صورة درامية عن الطريقة التي اضمحلت فيها الليبرالية الإسلامية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، تماماً مثل الأزمة التي صادفتها الليبرالية في أماكن أخرى في العالم في فترة ما بين الحربين العالميتين. إذ تبنّى السياسيون العثمانيون المتأخرون والقادة الدينيون الليبرالية كمذهبٍ عالمي يُعبّر عن قيم سياسية مشتركة بين حضارات العالم كله، مظهرين أن الجيل المسلم الأول قد تأسّس بالاعتماد على قيم التشاور، والمساواة، ورفض الملكية المطلقة. وقد انهارت هذه الحركات الدستورية التي سبقت الحرب، عندما أذعن مؤتمر باريس للسلام لاحتلال الحلفاء للإمبراطورية العثمانية المهزومة(9). إن قصة رضا هذه هي من أكثر القصص التي أُهمِلت في مأساة مؤتمر باريس للسلام الذي روج لنظام جديد للدول يستند إلى الهوية الوطنية للأغلبيات. واستكمالاً لتدمير النظم السياسية التي أدارت سابقاً التعايش بين الفئات الاجتماعية المتنوّعة، فقد فشل “نظام باريس” في تأمين حماية فعّالة للأقليات التي أوجدها(10).
يبدأ هذا الفصل بإعادة النظر في المؤتمر الدستوري لعام 1920 بوصفه يمثل لحظةً محورية في تاريخ السياسة العربية في القرن العشرين. فهو يبحث في كيفية حدوث مداولات المؤتمر العربي السوري كاستجابةٍ مباشرة للضغوطات والفرص الدولية العابرة للحدود، وكيف لعب رضا دوراً بارزاً بوصفه وسيطاً بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب ذات التوجه العلماني، وكيف هيّأ تدمير الدولة الناشئة الأجواء السياسية في ظل الانتداب الفرنسي. وبشكلٍ أكثر تحديداً، يظهر هذا الفصل كيف أن رضا كغيره من العديد من السياسيين في عصره، اعتقد بأن الحكومة الدستورية أفضل ضامن للسيادة وأن هذه السيادة هي الشرط الأساسي لتحقيق العدالة. فإذا استطاعت الملكية الدستورية أن تُقنع باريس بقدرة العرب على حكم أنفسهم، عندها سيعم العدل. وببراغماتية السياسيٍ الإصلاحي بدلاً من التصلب الفلسفي للعالِم الأصولي، تبنى رضا تسوية من شأنها أن تدعم المبادئ الأساسية للحكم الإسلامي بدل الإصرار على حرفية الشريعة الإسلامية.
ولكن قبل مواصلة النقاش، سـأقدم تعريفاً لبعض المصطلحات. يستخدم هذا الفصل كلمة “ليبرالي” بالمعنى الواسع المُتخيّل في ذلك الوقت، كحركة من أجل الحرية والحكم الدستوري، و من أجل الحداثة والتقدم ضد التقليد، والفردانية ضد الجماعية(11). وقد وصف بعض الباحثين أيديولوجية الليبراليين الاسلاميين بـ “الإسلام التجديدي” لأنهم تبنّوا الدستوريّة بمثابة تجديد للإسلام، متحررين من قيود الحكم الاستبدادي والتقاليد الدينية(12). وفي عام 1920، كانت رؤية رضا للحكم الإسلامي، وإيمانه بأن الصالح العام، والعدالة، يمكن أن يتحققا من خلال خطابٍ سياسي عقلاني، مفعم بهذه المبادئ(13). أما كلمة “السيادة” فقد استُخدِمت هنا بمعنيين: الأول خارجي؛ الرغبة بتعزيز الحكم الذاتي ودرء التوغل الأوروبي. والثاني معنى داخلي يشير إلى موقع السلطة التشريعية في النظام السياسي. ولطالما كتب رضا ودافع بحماسة في مجلة “المنار” عن المعنى الأول للسيادة، لكنه اتّجه، أثناء الحرب وبعدها، إلى التشديد على السيادة الشعبية إزاء ادّعاءات الملوك.
اشتهر محمد رشيد رضا (1865-1935) بين المؤرخين بوصفه محرر “المنار”، المجلة الإسلامية واسعة الانتشار، والتي أصدرها في القاهرة من عام 1898 وحتى عام 1935. وقد اجتذب بشكل أساسي اهتمام مؤرخي حركة الإصلاح السلفية، إلا أنه اعتّبِر في البداية مجرد وريث لمحمد عبدة. فعلى سبيل المثال، وصف ألبرت حوراني نشاطات رضا السياسية بأنها “لم تكن سوى نتائج جانبية لعمله الأساسي كقيم على أفكار محمد عبدة(274)”(14).
اعترف الباحثون برضا كمفكر وناشط متميز من الذين استطاعوا تكييف الأفكار الإصلاحية للقرن التاسع عشر بحسب السياق السياسي المتغير سريعاً في فترة الحرب العالمية الأولى، كما تشكّل فهمه للمسيحية، والإصلاح الإسلامي والقومية، والخلافة من خلال الصراعات الدائرة في عصره وتداعياتها(15).
يستلهم هذا الفصل مقاربته بشكل أساسي من أفكار الباحثين ديالا حمزة وأحمد دلال .فقد بينت ديالا حمزة بشكلٍ مقنع أن فهم بيئة كتابات رضا –الدورية- أساسي لفهم معناها. إذ ابتعد رضا عن أسلوب الخطاب الديني ليرسخ نفسه كصحفي مهتم بالمصلحة العامة. وعن هذه الفكرة كتبت ديالا حمزة: “المنار هي سجل لعالم مقلوب سياسياً رأساً على عقب على إثر زوال الامبراطورية العثمانية”(16). ولكنها كانت كذلك أداةً لإعادة بناء المجتمع على أسس حديثة، كما شرح رضا في عدد مبكر: “إن أصحاب الجرائد (الصحافة) هم الوصلة بين الهيئة الحاكمة والهيئة المحكومة لهم، يبينون لكل فريق الحقوق التي له والواجبات التي عليه بإزاء الفريق الآخر”(17).(1/649)
أما الباحث أحمد دلّال فقد بيّن أن التوجه المحافظ لرضا في العشرينيات من القرن العشرين كان متجذّراً في أفكاره المبكرة حول بسط الشريعة الإسلامية لتشمل كل مجالات الحياة. وقد كان هذا جزءاً من جهده الواسع لتكييف الأفكار الإصلاحية لتستجيب للحاجة الأشد إلحاحاً في ذلك العصر ألا وهي ضمان السيادة الإسلامية مقابل الانتهاكات الإمبريالية الأوروبية(18). ولكن الأهم من ذلك هو فهم دلّال أن حافزين سياسيين متنافسين قد تعايشا في ذخيرة رضا الفكرية–وأن أزمة ما بعد الحرب قدمت أحدهما على حساب الآخر. وهذان الحافزان هما العدوانية الأوروبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي أبعدت رضا عن الدستوريّة الليبرالية وقربته نحو السلفية، وثانيهما: رؤيته لدولة إسلامية ثيوقراطية حديثة. ومن خلال التأثير الواسع لمجلته، فقد كان رضا شخصيةً محورية أساسية حاسمة في السياسة العربية في فترة ما بعد الحرب.
من خلال دراسة نشاط رضا السياسي خلال السنوات العشر التي سبقت عام 1920, نستطيع أن نرى الاشكالية الناجمة عن استبعاده من حقل دراسات السياسة العربية في فترة ما بعد الحرب. ذلك أن رضا قبل الحرب قام بتنظّيم السوريين في مصر كجماعة ضغط سياسية تطالب بإصلاحات ليبرالية داخل الإمبراطورية العثمانية، كما أنه حضر المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 بصفته ممثلاً عن حزب اللامركزية الإدارية، الذي ساعد رضا في تأسيسه عام 1909. وخلال الحرب فقد التحق بالجمعية السرية العربية “الفتاة”، وتواصل مع الشريف حسين والملك فيصل، اللذين نظّما الثورة العربية ضد العثمانيين. وعند نهاية الحرب، وكما أظهر توبر Tauber، أسقط رضا دوغمائيّة الوحدة الإسلامية لإنقاذ السيادة العربية في سوريا.
يشير دور رضا في مؤتمر عام 1920، أيضاً، إلى ضرورة إعادة التفكير في الإطار القومي المعتاد لتحليل تلك اللحظة السياسية. إذ يبقى الدستور حالةً شاذة في الدراسات التاريخية التي تهيمن عليها كتابات باحثي مفهوم القومية. كما أن الدراسات المكتوبة باللغة الإنكليزية أهملت هذا الدستور لدرجة أن ترجمة إنكليزية له لم تُنشر حتى الآن. ورغم أن كتاب “ولاءات منقسمة” لجيمس غلفن (Divided Loyalties, James Gelvin)، وهو المرجع الحالي المعتمد عن فترة الملك فيصل، يرسم صورةً حيّة للتباري بين الفريقين المتنافسين؛ الديمقراطيين والتقدميين، إلاّ أنه يشير بشكلٍ عابر فقط إلى المناقشات الدستورية في المؤتمر. أمّا الدراسة الأولى باللغة الإنكليزية حول عهد فيصل، وهي كتاب مالكوم راسل “الدولة العربية الأولى”، فقد كرّست صفحة واحدة فقط للدستور. كما أن كلاً من كلاسيكيات ألبرت حوراني “الفكر العربي في العصر الليبرالي Arabic Thought in the Liberal Age”** والمجلد الآخر الأحدث حول الليبرالية في شرق المتوسط في هذه الفترة، غفلت أيضاً عن هذا الدستور(19).
عكست هذه الثغرة أيضاً إعادة صياغةٍ مقصودة لتلك اللحظة من قبل المعاصرين لتلك اللحظة. وبصرف النظر عن مذكراته الوردية حول حكومة فيصل والتي جاء ذكرها في بداية هذا الفصل، فقد أهمل رضا بشكل واسع الدستور في أعمدة مجلته “المنار”. وبالمثل، فإن مذكرات وتواريخ العرب حول عهد الملك فيصل، بما في ذلك ما كتبه يوسف الحكيم، وساطع الحصري، وجورج أنطونيوس وزين نور الدين زين، جميعها أهملت الدستور لتصب تركيزها على المعركة ضد الفرنسيين (20). فقد سيطر واقع الاحتلال الأجنبي على الكتابات السياسية في عصر ما بعد الحرب، وسط ضباب الحرب والهزيمة. وفي أذهان وأعضاء المؤتمر، كانت السيادة هي الأساس الوحيد لتحقيق العدل، لأن المثل الدستورية قد تثمر فقط عندما تتم استعادة الحكم الذاتي.
وعلى المدى الطويل، أصبحت العواقب الوخيمة لهزيمة العرب أمام فرنسا في تموز من عام 1920 واضحة. فبينما لم يكن رضا لاعباً أساسياً في العملية السياسية في دمشق عام 1920، إلاّ أنّ دوره كوسيط بين الطبقة النخبوية والشعبويين قد ظهر بشكل حاسم في هندسة إحداث تسوية بين النخب الليبرالية والشعبويين الإسلاميين، هذه التسوية التي لم يفصل القول فيها بعد في السياسة العربية. وبما أن الاضطرابات الحالية في أنحاء الشرق الأوسط العربي قد عرّت النظام الحالي، فإنه من المفيد أن ندرس الأحوال السياسية التي كانت قائمة آنذاك.
المؤتمر العربي السوري لعام 1919:
دعا الملك فيصل لانتخابات المؤتمر العربي السوري في أيار من عام 1919 عند عودته من مؤتمر باريس للسلام. وقد حضر المؤتمر ليلتقي وفداً أميركياً مرسلاً من قبل [الرئيس الأمريكي] وودرو ويلسون (Woodrow Wilson) لاستطلاع التوجهات السياسية حول الانتداب. كما كلّف فيصل المؤتمر العربي السوري بإظهار قدرة العرب على الحكم الذاتي من خلال إعلان دستور من شأنه تأمين حماية قوية للأقليات، وبالتالي التخفيف من شدة قلق الحلفاء الناتج عن مذابح الأرمن. وفي حين كان الهدف الواضح لفيصل من المؤتمر هو إنجاز هاتين المهمتين فقط، إلا أن المؤتمر سرعان ما أكّد نفسه كهيئة مستقلة بذاتها، مطالبا بسلطة تمكنه من التدخل في مفاوضات فيصل مع فرنسا حول مستقبل سوريا(21).
الملك فيصل ويظهر خلفه من اليمين تحسين قدري وادوارد لورنس ونوري السعيد ورستم حيدر
أُجريت انتخابات المؤتمر وفقاً للقوانين العثمانية حيثما كان ذلك ممكناً. وبسبب منع الفرنسيين والبريطانيين المؤتمرات الانتخابية في لبنان وفلسطين، تم اختيار النواب سراً من بين الأعيان المحليين والنواب السابقين في البرلمان العثماني. وفي أواخر حزيران شق المندوبون طريقهم إلى دمشق من بيروت، وصيدا، وحلب، وحمص، وحماة، ودير الزور، واللاذقية، وحيفا، ويافا، والقدس، وغزة، والسلط وغيرها من المناطق. وكان معظم المندوبين ملاك أراضي محافظين، وعلماء، وشيوخ عشائر من العصر العثماني. وفي يوم افتتاح المؤتمر، أصرّوا على تلاوة البسملة، مفتتحين الجلسة باسم لله. أمّا النواب الآخرون فقد كانوا وطنيين قدّر لهم أن يكونوا قادة سياسيين في سورية ولبنان وفلسطين الواقعة تحت الانتداب: هاشم الأتاسي، وسعد الله الجابري، ورياض الصلح، وعزّت دروزة، والحاج أمين الحسيني. لقد جابهوا الوصيَّ القديم بوعود من قِبل “فجر جديد” وحكومة حديثة، “حيث لا يتدخّل الدين”(22).
وبالرغم من هذه الاختلافات، أعدّ المؤتمر مجموعةً موحّدة من المطالب تنادي باستقلال ووحدة سوريا الكبرى، بما في ذلك لبنان وفلسطين. وفي الثالث من تموز، التقت مجموعة نواب بلجنة “كينغ -كراين” الأميركية للمطالبة باستقلال كامل ومعارضة تقسيم سوريا الكبرى إلى دويلات أصغر. وقد عبروا عن رفضهم لفكرة الانتداب، وأنهم سيقبلون مساعدات اقتصادية وثقافية فقط لا تمس استقلالهم السياسي(23). وعلى أية حال، فقد تجاهلت القوى العظمى في باريس تقرير لجنة “كينغ-كراين” كلياً.
لم يسافر رضا من مصر إلى دمشق إلاّ في وقت لاحق في ذاك الصيف. وبحلول أيلول من عام 1919، انضم للمؤتمر بوصفه ممثلاً منتخباً عن طرابلس وعضواً في جمعية “الفتاة”. وفي الوقت الذي عاد فيه فيصل إلى باريس لإجراء المزيد من المفاوضات، تابع المؤتمر اجتماعاته بشكل غير منتظم في النادي العربي. وجاءت جلسته الأبرز في أواخر تشرين الثاني، عندما سحبت بريطانيا قواتها من سوريا، وسمحت للقوات الفرنسية بالحلول مكانها. عندها غضب النواب من خيانة الأمانة، وصوّتت الغالبية لمنع تقدم القوات الفرنسية في سوريا. تحدّى التصويت مطالب فيصل بالتحكم بالسياسة الخارجية وأكّد [قوة] السلطة التشريعية إزاء التنفيذية(24).
تحوّلت المعارضة إلى ثورة عندما عاد فيصل في كانون الثاني من عام 1920. إذ أنه أجرى اتفاقاً مع رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمانصو ينص على أن فرنسا ستعترف بالاستقلال السوري، بشرط أن تضمن لها دوراً اقتصادياً وعسكرياً. واحتجاجاً على ذلك الاتفاق، استقال القادة المتمردون إبراهيم هنانو وكامل القصاب من المؤتمر ليبدؤوا في تنظيم حرب عصابات في وجه القوات الفرنسية المتقدمة(25). بينما أصرّ نواب آخرون على تخلي فيصل عن الاتفاق. ثم أخذ النزاع شكلاً فعلياً مع صعود الأحزاب السياسية المعارضة. كان حزب فيصل وهو الحزب التقدمي، الذي اعتنق لغة ليبرالية متسامحة وتكنوقراطية، إرضاءً للأوربيين، وتمثل وجهات نظر النخب المتعلمة. أمّا الشعبويون فقد شكّلوا الحزب الديمقراطي الذي اعتنق لغة إسلامية ذات طابع شعبوي اجتذبت أتباعاً بين صغار العلماء والتجار وقادة الأحياء.
تحت هذه الظروف كان اللقاء الأول بين رضا وفيصل. ورغم كون رضا عضواً في الحزب التقدمي إلا أنه تعاطف مع أولئك الذين رفضوا التسوية، كما ساعد على ثني فيصل عن العودة إلى فرنسا. إن معارضة رضا للدور الفرنسي ومساندته للملكة العربية السورية لم تأت من قناعته بوحدوية الإسلام ولكن من قناعة بأن الإسلام قد أسهم في النظام الحقوقي العالمي. وبينما قسّم الأوروبيون الأراضي العربية، متجاهلين رغبات السكان المحليين، كتب رضا خلال الحرب، أنهم أرسلوا رسالة مفادها أن “الحق، والعدل والحرية كانت تستهدف المسيحيين فقط”(26). كما أصبحت شرعية النظام الدولي للحكم الذي اقترحه وودروو ويلسون والمتمثل في عصبة الأمم في محل اختبار في ذهن رضا. فهل سيكون المسلمون وغير الأوروبيين الآخرين متساويين في ظل النظام الدولي؟
المؤتمر الدستوري لعام 1920:
في 6 آذار، عقد فيصل والقادة الوطنيون المؤتمر الوطني من أجل إعداد إعلان رسمي للاستقلال. وقد انتخب المؤتمر هاشم الأتاسي من حمص كرئيس جديد له وعزت دروزة من نابلس كسكرتير. وصل رضا متأخراً من بيروت، مرافقاً النواب الذين حظر الفرنسيون سفرهم إلى دمشق(27). في اليوم التالي، بينما نادى المتظاهرون خارج القاعة بالاستقلال والديمقراطية، خاطب فيصل المؤتمر قائلاً: “إن دولتنا الجديدة التي قام أساسها على وطنية أبنائها الكرام هي في حاجة اليوم إلى تقرير شكلها أولاً ووضع دستور لها يعيِّن لكل منا –آمرنا ومأمورنا- حقوقه ووظائفه”(28). ص39
وفي يوم 8 آذار، وقف سكرتير المؤتمر عزت دروزة على شرفة بلدية مدينة دمشق، ليعلن أن سورية مستقلة وأن فيصل ملك عليها. كما أكّد دروزة أن الاستقلال كان مكافأة عادلة لدور العرب في الحرب، وأن تقرير المصير من حقهم. وتعهّد بأن “السوريين الآن سيأخذون مكانهم بين الأعضاء الفاعلين في العالم المتحضر”(29).
إن إعلان الاستقلال مثّل رفض السوريين العرب التبعية القانونية التي يفرضها قانون الانتداب، وقد كانت لغتهم لغة ليبرالية منادية بالمساواة. وبهذه الروح سرّع المؤتمر عمله في صياغة الدستور في أواخر آذار. إلا أن بريطانيا وفرنسا في أواخر نيسان ردتا على تلك الجهود بوضع معاهدة سان ريمو، التي عهدت رسمياً بسوريا ولبنان إلى فرنسا بوصفها مناطق واقعة تحت انتدابها. فاندلعت مظاهرات عنيفة في دمشق أجبرت حكومة رئيس الوزراء علي رضا الركابي على السقوط في الثاني من أيار. انتخب المؤتمر أتاسي كرئيس وزراء حكومة “الدفاع الوطني” التي كُرّست لمعارضة الادعاءات الفرنسية. ثم اختير رشيد رضا ليأخذ مكان أتاسي كرئيس للمؤتمر في الخامس من أيار(30). وحتى عندما كانت القوات الفرنسية تحوم عند الحدود اللبنانية، كان رضا يكرّس معظم جلسات المؤتمر لمناقشة الدستور(31).
وبالرغم من وجود الخطر الفرنسي إلا أن الملك المتوج حديثاً فيصل بدأ يغضب من إصرار المؤتمر على تبوء سلطة تشريعية مقابلة لسلطته القضائية. وجادل أن على المؤتمر أن يطيعه، لأنه هو الذي أنشأه. إلا أن رضا أصرّ على السيادة الشعبية مقابل مزاعم فيصل بالسيادة الملكية، برده الشهير “لا! إن المؤتمر هو من أوجدك… فجعلك المؤتمر ملكاً لسوريا”(32). واستمرت معاركهم الكلامية خلال أسابيع من النقاش حول مواد الدستور. وبدعم من رئيس الوزراء هاشم الأتاسي، قرر المؤتمر برئاسة رضا أن الحكومة ستكون مسؤولة أمام المؤتمر وليس أمام الملك فيصل. ثم أكد المؤتمر نفوذه في السياسة الخارجية، من خلال منع الملك فيصل من السفر إلى أوروبا للمزيد من المفاوضات، وإعلان التجنيد الإجباري(33).
عبرت هذه الأحداث بصورة درامية عن الصلة الوثيقة بين الدستورية والسعي لتحقيق السيادة. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، اعتبر الإصلاحيون الليبراليون الحكومة الدستورية بمثابة دعامة أساسية للسيادة الوطنية. ففي عام 1876م، اعتقد العثمانيون الشباب كأمثال مدحت باشا أن التمثيل المتساوي في البرلمان سيشجع مسيحيي البلقان على الولاء، وبذلك يقومون بالتصدي للتقدم الروسي. كما اعتقد المصريون في عام 1881 والإيرانيون في عام 1906 أن البرلمان قد يحبط محاولات الملوك لبيع موارد البلاد للقوى الأجنبية(34). وهكذا في عام 1920، ولمواجهة تهديد الاحتلال الأجنبي، ركز المؤتمر على التصديق على دستوره. وعندما قدّم النائب عثمان سلطان المسودة النهائية من الدستور، أسماها “السلاح المدني المخيف للأمة في مواجهة الاعتداءات الاستعمارية في بداية استقلالها”(35).
تضمّنت المسودة النهائية 147 مادة، مقسمة إلى فصلين تتعلق بالحقوق الجماعية والشخصية، وسلطات الملك، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والحكومة المركزية وحكومة المقاطعات. ويتفق الباحثون على أن المواد السبع الأولى من الدستور أٌقرت رسمياً في الأسبوع التالي أو قريباً من ذلك. وقد نصّت هذه المواد على أن المملكة العربية السورية “ملكية مدنية نيابية”، عاصمتها دمشق، ولغتها الرسمية هي العربية. كما نصّت على أن دين الملك هو الإسلام، وأن عليه أن يقسم أمام المؤتمر على احترام الشرائع الإلهيّة، وثقة الأمة، والدستور. وعلى أنه، لا يمكنه أن يتوج ملكاً إلا إذا صادق على تعيينه ثلثي المؤتمر. أما المواد المتبقية، وفقاً لمذكرات مختلفة، فقد أُقرّت بشكل جماعي في تصويت مُستعجل قبل حل المؤتمر في 19 تموز من عام 1920. وترى ماري شهرستان أنه على الرغم من أن المواد المتبقية لم يتم اعتمادها كلاً على حدة، إلا أنها حظيت بقبول واسع. أمّا النقاش المفتوح حول الدستور في آذار ونيسان فقد كان حول سلطات الملك، ميثاق الحقوق، والسلطة التشريعية. ثم لُخِّصت المناقشات ونُشِرت في الجريدة الرسمية “العاصمة”، وفي الجرائد المحلية. لذلك فإن النسخة المقدمة في 5 تموز كانت معروفة بشكل مسبق للمؤتمر وللجمهور المهتم(36).
وبما أننا نفتقر إلى مجموعة كاملة لمحاضر الاجتماعات، يجب أن ننظر إلى خطاب “عثمان سلطان” في 5 تموز بوصفه نافذة على أهداف اللجنة وعلى نقاشات المؤتمر(37). لقد طمأن المشككين في المؤتمر بأن الدستور وفّق بين الحياة الديمقراطية وبين ظروف سوريا وشعبها، مع الحرص على “حماية المصلحة العامة وتجنّب وجود فائض من الحرية الشخصية”. وهكذا سعت اللجنة لإيجاد توازن بين “الحقوق الشخصية والجماعية”، وبين الدولة والمجتمع من أجل دعم حقوق وواجبات المواطنين في الحكومة وفي المحكمة؛ ولضمان حرية تأسيس الجمعيات، والتعبير، والتعليم، والمعتقد الديني؛ ومنع العمل القسري، والترحيل، والفساد البيروقراطي.
وأفاد سلطان بأن اللجنة كانت قد ناقشت المزايا النسبية للملكية والجمهورية. إذ قررت أن سوريا لم تكن جاهزةً بعد للدولة الجمهورية لأن ذلك قد يحدث الفوضى. لذلك فقد تم اقتراح نظام الملكية النيابية كخطوة مؤقتة. واختارت اللجنة عرض العرش على فيصل لضمان الاستقرار: فهو أتى من أسرة موقرة عريقة، ولديه مكانة دولية، وقاد الجيش الذي حرّر سوريا. أما بالنسبة للمشككين الذين فضّلوا حاكماً محلياً، فقد أعلن عثمان بأنه لا يوجد سوري واحد يمكنه أن يضاهي مجد فيصل وقدراته.
كما أن الملك فيصل سيخضع لقيود السلطة القضائية والتشريعية. وسيتوجب عليه طلب موافقة المؤتمر لإعلان الحرب والتفاوض على المعاهدات. كما أن سلطته على قبول ورفض الوزارات أيضاً ستخضع لموافقة المؤتمر. ولا يمكن للملك إنفاق إيرادات الدولة بحرية مطلقة. كما سيتوجب عليه منح الرتب والرواتب العسكرية وفقاً للقانون، والعمل من خلال خزينة عامة راسخة تخضع لرقابة عامة ثابتة مستمرة. وأخيراً، فإن سلطة الملك ستكون محدودة في المقاطعات من خلال نظام فدرالي يضمن حكماً ذاتياً محلياً. في حين أن الحكومة المركزية ستسيطر على التجارة، والتعليم، والأشغال العامة، والأمن، وللحكام الحرية في تعيين موظفيهم المختارين من قبل السكان المحليين.
كما أكّد سلطان على الحريات المدنية كسمة بارزة للدستور. إذ سيتم التعبير عن الرأي الحر في صناديق الاقتراع. وسيُنتخب أعضاء فرعي السلطة التشريعية، ومجلس النواب ومجلس الشيوخ. ولأن سوريا تضم عدداً كبيراً من الطوائف، أُدرِجت أحكام خاصة لضمان الحقوق الانتخابية للأقليات: سيحجز مقعد واحد في مجلس النواب لكل 40000 مواطن منتمين لطائفة أقلية معينة. كما يوجد حدٌ أدنى من الشيوخ الذين ينتمون للأقليات. وأخيراً، لن تهيمن أي مجموعة دينية بمفردها (بما في ذلك المسلمين السنة) على المحاكم أو الحياة السياسية. ولن تميّز الحكومة بين الطوائف، كما أنها ستتيح الحرية الكاملة في المعتقد والتعليم الديني. وفي حين أن رشيد رضا لم يعمل في لجنة صياغة الدستور، إلاّ أنّه يمكننا أن نستدلّ منطقياً أنه اتّفق مع تقرير سلطان، ليس فقط لأنه كان رئيس المؤتمر، بل أيضاً لأن سلطان ينحدر من مسقط رأس رضا، أي طرابلس. ومن الأرجح أن يكون رضا قد وافق على الحلول التوفيقية بين المصالح المتضاربة: الأقاليم والحكومة المركزية، المسلمون السنة والأقليات، الجمهوريون والملكيون، الليبراليون والمحافظون.
وكنتيجة للنقاشات المكثّفة، كان دستور سوريا آخر دستور جرت مناقشته شعبياً في ذلك العصر. مثل دستور مصر لعام 1881 ودستور إيران لعام 1906 وعلى نقيض الدساتير التي فُرِضت لاحقاً من الأعلى من قبل القوى المنتّدِبة، فإن دستور عام 1920 تمت مناقشته مادة مادة بين الفريقين المتعارضين الذين أبرما تسويات قاسية بشكل مشابه لمداولات فيلادلفيا في أمريكا عند وضع دستورها عام 1787. وفي نظر العالم السياسي ناثان براون (Nathan Brown)، فهذا يشير إلى قابليته للتطبيق. إذ يرى براون أن الدساتير تتطلب عاطفة قوية إذا كانت تريد أن تملك القدرة على البقاء. يجب أن تكون عقداً بين المصالح المتنافسة على قواعد لعبة سياسية مشتركة. أمّا صياغة التكنوقراطيين مثلاً أعلى للعدل في جلسات خاصة وراء أبواب مغلقة فلا يمكنها أن تستشعر الأهواء المتنافسة الموجودة في كل مجتمع (38).
بالفعل يمثل دستور عام 1920 توافقاً مجتمعياً كبيراً تماماً مثل الدستور الأمريكي. فمن جهة، طالب الديمقراطيون المحليون بحكومة لا مركزية قريبة للشعب، ومن جهة أخرى ناضل التقدميون من أجل الحكومة المركزية التي طالب بها فيصل. أما بالنسبة للديمقراطيين فقد كانوا شعبويين قام أتباعهم بالاحتشاد خارج قاعة المؤتمر معارضين لنفوذ الثقافة الأجنبية ومطالبين بمجتمع مستقل بذاته. إضافة إلى ذلك فقد ادّعوا أنهم يمثلون إرادة الشعب الذي يريد “ملكاً ديمقراطياً، ودستورياً، وعادلاً”. واستخدموا تعابير إسلامية محلية تنادي بالعدالة الاجتماعية والأصالة الثقافية، إلا أن خطابهم بدا مُقصياً للأقليات مما شكل مصدر قلق للأوروبيين المتحفزين للغزو. بينما تكلم التقدميون بلهجة نخبوية تصالحية بدت أكثر اعتدالاً، مع أنها لخّصت أيضاً الأساليب غير الديمقراطية للعثمانيين. لقد وضعوا تصوراً مجرداً للثقافة، يمكن فقط للنخب المتعلمة أن تستوعبه. فالمستقبل المزدهر بالنسبة لهم يعني إعادة تشكيل المجتمعات العربية على غرار الحداثة الأوروبية تنشر فيه الطبقات النخبوية التقدم بطريقة عامودية من الطبقات العليا في المجتمع إلى طبقاته الدنيا(39). ومع ذلك وبالرغم من جميع الاختلافات بين الجانبين، فقد تناقش الجانبان بشكل بنّاء في ظل قواعد إجرائيّة، مُتفق عليها. فقد كانوا يواجهون عدواً مشتركاً يعيق إمكانية الاستقطاب فيما بينهم. إذاً شجّع تقديم الدستور كسلاح ضد الاحتلال الاستعماري كل الفرق على المثابرة في المفاوضات، حتى عندما حشد بعض الديمقراطيين مثل كامل القصاب الشارع ضد التقدميين في المؤتمر.
رشيد رضا والتسوية الدستورية في مسألة الدين والدولة:
سرعان ما أصبحت مكانة الدين في الدولة الجديدة قضية حرجة قسمت الجانبين في المؤتمر خلال هذه الأسابيع من النقاش. ومما يثير الدهشة أن نلاحظ غياباً نسبياً في الاهتمام بمسألتي السلطة الدينية والشريعة الإسلامية في تقرير عثمان ونص الدستور. إذ يقتصر ذكر الإسلام فيما يتعلق بالعقيدة الشخصية للملك، وبواجبه في احترام الشرائع الإلهيّة. أما المادة 13 فتؤكّد حرية المعتقدات والديانات. إلا أنه على نقيض الغالبية العظمى من الدساتير في العالم العربي اليوم، لا توجد أي مادة تؤكّد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع(40).
ربما ما يُثير الدهشة أكثر هو أن دستوراً علمانياً كهذا شجعه عالِمٌ إسلامي مثل رشيد رضا. فنظراً لسلطته كرئيس للمؤتمر، علينا أن نفترض أن يكون رضا قد أيّد ضمنياّ حذف الدستور للشريعة الإسلامية والسلطة الدينية. ويكتسب هذا الافتراض مصداقية أكثر عندما نتذكر أن رضا طالما شدّد على أهمية إدراج المسيحيين في الدولة السورية. لقد آمن بأن الطريقة الوحيدة أمام السوريين لكسب السيادة تكون من خلال تحقيق وحدة تشمل كل الطوائف المختلفة مما يحرم الأوروبيين من أهم مبرراتهم الأساسية لفرض حكمهم الاستعماري، أي دعواهم حماية حقوق الأقليات. وقد بيّن تاوبر أن رضا كان قد تخلى عن هدفه السابق بتوحيد عرب سوريا مع عرب شبه الجزيرة العربية في دولة واحدة بسبب المعارضة المسيحية. ففي عام 1919 وبينما كان رضا ما يزال في القاهرة، قام حزب رضا أي حزب الاتحاد السوري بالدعوة لقيام دولة سورية منفصلة على أساس وحدة إسلامية-مسيحية(41).
إلا أنه لم يكن من الممكن لرضا أن يفرض وجهات نظره بهذه البساطة. فقد تحمّل وطأة ضغوط شديدة تدفع لإقامة نظام إسلامي. فمن ناحية، طالب علماء النخبة بدور أكبر في الحكومة للمحافظة على وضعهم التقليدي. ومن ناحية أخرى، استخدم الشعبويون بقيادة كامل القصاب شعارات دينية لكسب التأييد للقيام بعمل عسكري ضد فرنسا ولقيام حكومة إسلامية من نوع أكثر ديمقراطية. عرف رشيد رضا كامل القصاب شخصياً كعضو زميل في حزب الاتّحاد السوري، ولكنه لم يتفق مع وجهات نظره الراديكالية حول الحكومة اللامركزية(42). كما واجه رضا أيضاً ضغوطاً من قبل أنصار الملك فيصل، الذين تعهد إعلانهم في 5 تشرين الأول عام 1918 بقيام “حكومة عربية تستند على مبادئ العدل والمساواة….. لن يكون هناك تمييز في حقوق المسلمين، والمسيحيين، أو اليهود”. وفي خطاب الملك فيصل في أيار من عام 1919 الذي دعا فيه إلى مؤتمر دستوري، ذهب فيصل إلى أبعد من ذلك بقوله: “لا يوجد أي شك لدي بأنه في ظل قيادة سورية فإن مطالب الأقليات في شعبنا ستسود على رغبات ورؤى الأغلبية”(43). وللفصل بين الرؤى هذه، أوجد المؤتمر حلاً وسطاً، متجنباً كلاً من لغة المساواة التامة ولغة الحكومة الإسلامية. فقد وعد في إعلانه في 7 آذار من عام 1920 بإنشاء “نموذج مدني نيابي للحكومة” و”حفظ حقوق الأقلية”(44).
في تقارير منشورة في سنوات لاحقة في “المنار”، يصف رضا نفسه بالوسيط بين الجانبين. فقد كان متواجداً في صورة الأحداث في أواخر شباط من عام 1920، عندما أقنع القادةُ الوطنيون فيصل بالانضمام إلى إعلان الاستقلال. ويذكر رضا في تقاريره، أن بعض النواب غير المسلمين طالبوا بدولة علمانية، بينما طالب بعض المسلمين بدولة إسلامية، أو على الأقل بأن يكون الإسلام الدين الرسمي للدولة. وهنا، يروي رضا عن نفسه في “المنار” عندما اقترح السكوت في هذه المسألة: “إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل،… فيجب إسقاطها”. ووافقه أغلب النواب على تجنب هذه المسألة في هذا المنعطف الحرج، “باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام”(45). إلا أن الضغط من قبل الجانبين لم يخف، فبعد انتخابه رئيساً للمؤتمر، أشار رضا إلى أن بعض العلمانيين عارضوه لمجرد كونه رجل دين، بينما وبّخه بعض الشعبويين الإسلاميين لانسجامه مع “الأفندية” من حزب الاستقلال (46). من الواضح أن رضا واجه معركة مستمرة من أجل أن يبقى في الوسط بين الأطراف المتنازعة.
تزودنا نسخة عن النقاش الذي دار حول حق المرأة في الانتخاب بتاريخ 27 نيسان عام 1920 بفكرة عن كيفية قيادة رضا للمؤتمر باتجاه إحداث تسوية بين الديمقراطيين الشعبويين والتقدميين النخبويين(47). فقد كان الدافع وراء النقاش اقتراح إبراهيم الخطيب تعديل مسودة المادة 79، التي تمنح الرجال الذين أتموا العشرين حق الانتخاب، لتشمل السيدات المتعلمات. وقد أشعل ذلك نقاشاً طويلاً وحاداً، مثيراً تماماً نوع العاطفة والحماس الذي يجادل ناثان براون بأنه ضروري لتحويل الدستور إلى ميثاق اجتماعي دائم. تتمحور الحجة على العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدستوري. واستقطب الخطيب الدعم بشكل أبرز من شيخ غزة المبجّل سعيد مراد. فقد جادل مراد أنه يجب السماح للمرأة بالانتخاب لأن الشريعة الإسلامية، منحتها حقوقاً لا تقل عن حقوق الرجل. إلا أن شيخ من حماة اعترض على ذلك قائلاً بأن تطوير أفكار كهذه “ستقود إلى فوضى عامة”. ووافقه عادل زعيتر من نابلس: “نعم قد تكون في الشرع إباحة تخوّل النساء حق التداخل في مثل هذه الأمور، ولكن الشرع لا يقول أن الأمة مجبورة على وضع قوانين ونظامات تخوّل المرأة الاشتراك بها”، وقال: “إننا جئنا إلى هذا المكان لنعبّر عن رأي الأمة، فإذا أعطينا رأياً أو سننّا قانوناً لا تقبله فهل نكون قد وفينا الأمانة حقها؟” كما وافق عبد القادر الخطيب من دمشق على ذلك: “أرجوكم أن لا تقدِموا على عمل ضرره أكبر من نفعه”.
بلغ النقاش حول حق الانتخاب ذروته عندما وقف الشيخ مراد مرة أخرى، وسط تصفيق الحاضرين، فقد ربط المسألة بمهمة سياسية أعلى للدستور وهي إرساء السيادة. “أول دافع لي على التكلم في هذا الموضوع هو ما قرأته في مدونات الغربيين وصحفهم إذ قالوا: {إن الشرق يحتاج لوصاية الغرب عليه لأنه سجل على نفسه جهل نصفه} يعني المرأة”. عندها ضجت القاعة وغادرها ستة نواب بقيادة الخطيب. ثم قال رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي: “الأكثرية مفقودة!” إلا أن السكرتير دروزة أكد أن الأكثرية موجودة. وتابع مراد قوله: “وكل ما أريده أن تفهم أوروبا أنها وإن كانت أرقى منا في الصنائع والماديات، فنحن أرقى منها في القوانين المدنية”.
وعندئذ وقف رشيد رضا وسط تصفيق طويل وجادل بالقول: “إن لهذا التمحيص وجهاً غير الوجهة الدينية والاجتماعية، وهو إحساس الأمة وشعورها”، وتابع: “الذي يريد أن يضع قانوناً عملياً باسم الأمة ينبغي له أن يراعي عواطفها”. وتابع بأن الشريعة الإسلامية تسمح بكتابة القوانين بهذه الروح، لأن الشرع واسع جداً. وقال: “الأمور الدينية الصرفة أساسها النص، والأمور المتعلقة بالدنيا أساسها اعتبار مصالح العامة التي تختلف بحسب الزمان والمكان”. وتابع بأنه عند النظر في حقوق المرأة، فيجب على المؤتمر أن يأخذ بالاعتبار الرأي العام ومهمته. وبالنظر إلى الوضع السياسي المضطرب، فمن التهور التورط في جدال كهذا الآن. ثم حذّر: “ليس لدينا من الوقت ما يسمح لنا بفتح باب للمتعصبين”. “في مثل قرار كهذا تخطبُ الخطب في الجوامع ضد المؤتمر وليس من فائدة عملية من هذا الأمر”(48). استرضى رضا مؤيدي حق الانتخاب من خلال نصح المؤتمر بالدفاع عن حق المرأة في التعليم. إذ قال بدلاً من أن نتحارب فيما بيننا حول حق الانتخاب “أقول بوجوب محاربة الجامدين الذين يريدون أن تبقى المرأة جاهلة”.
أجاب رياض الصلح: “إذا كانت قهوات الشام (دمشق) لا تقبل هذا الأساس، فالمقاطعات الباقية تقبله بكل سرور”، وتابع: “واعلموا أيها السادة أن خروج ستة أو سبعة أعضاء لا أهمية له بل يثبت عجزهم عن مقارعة الحق”. ومع ذلك فقد اقترح عضوان من لجنة صياغة الدستور هما عثمان سلطان (من طرابلس) وتيودور أنطاكي، عدم البت في موضوع إعطاء المرأة حق الانتخاب، وتسجيل الاقتراح في مضبطة المؤتمر. وأعلن الأتاسي، رئيس المؤتمر: “فمن يقبل بذلك فليرفع يده”. رفعت الأكثرية يدها، وكما نصح رضا، طُرِحت المسألة.
بعد أسبوع، انتُخِب رضا رئيساً للمؤتمر. ومن البديهي أن العامل الأساسي في انتخابه كان أداءه في النقاش حول حق المرأة بالانتخاب. فقد وحّد المؤتمر المنقسم بشكل كبير حول تسوية مقبولة، عندما كانوا بأمس الحاجة إلى الوحدة (جرى النقاش تماماً عندما منح مؤتمر باريس للسلام في سان ريمو رسمياً فرنسا حق الانتداب في سوريا). إن شروط التسوية هامةٌ. وكرجل دين، فقد أوحت رئاسة رضا إلى المحافظين بأن وجودهم في المؤتمر كان مرّحباً به. لكن رضا من ناحية أخرى، رسّخ قانوناً دستورياً مختلفاً عن الشريعة الإسلامية –في ظل القواعد الإسلامية المتعلقة بالمصلحة العامة. وقد أيّد حزب الاستقلال العلماني هذه الرؤية.
وكما أشار رضا في سنوات لاحقة، فقد عمل بجهد في ذلك الربيع لإبقاء جناحي المؤتمر معاً. ففي احتفال بعيد الفطر في منزله في حزيران من عام 1920 انتقد الخطيب عزت دروزة لإظهاره قلة الاحترام لرضا عبر مغادرته القاعة بينما كان المؤتمر مستمراً بجلسته. وقد اعتذر دروزة، مفسراً أنه غادر فقط من أجل جمع مواد بحثية متصلة بالنقاش. واتّهم محافظ آخر إداريي المؤتمر بعدم التعاون مع رضا لمجرد كونه رجل دين. أبان رضا أن بعض “الأفندية” في الحزب عزّ عليهم أن يكون رئيس المؤتمر رجل دين. ولكنه أشار أيضاً أن دروزة، كركيزة لحزب الاستقلال، استحق تماماً أن يُنتخب لرئاسة المؤتمر في أيار. وأعرب عن أسفه لأن دروزة غالباً ما جلس مع النواب العاديين، بدلاً من الجلوس معه على رأس المؤتمر. كذلك قال أنه بالرغم من كون الخطيب خصماً عنيداً لحزب الاستقلال خاصته، إلا أنهما تشاركا أهدافاً متماثلة في الإصلاح الديني(49).
تدل قصص كهذه نُشرت في “المنار” على قصد رضا السعي جاهداً لبناء جسور بين الأطراف المنقسمة سياسياً. وفوق ذلك يشير سجلّه وأفعاله في عام 1920 إلى أن التسويات التي توسط فيها لم تكن مجرد نتاج عمل صفقة سياسية. إذ يحمل دستور عام 1920 تشابهات ملحوظة مع مسودة الدستور التي تبناها حزب رضا (حزب الاتحاد السوري) في مصر في وقت مبكر من عام 1919، مما يشير إلى أن آراءه الليبرالية سبقت حاجته لعقد صفقات في دمشق(50). فقد كتب منذ مدة طويلة أن الإسلام يفسح المجال للحكم في المصلحة العامة، وأن الالتزام الصارم بالنصوص يجب أن يُمارس فقط في الأمور الدينية. ومن خلال تفضيله المصلحة العامة على النص، فقد قدم تعريفاً ليبرالياً جداً لدولة إسلامية في سوريا.
بالتالي يمكن النظر لانتخاب رضا كرئيس للمؤتمر بوصفه مصالحة تاريخية بين الليبرالية والإسلام مكّنت المؤتمر من إنشاء خطاب ليبرالي محلي ولغة حكومية تكيّف المثل الكونية بما يتناسب مع الظروف المحلية. وكان رضا على استعداد للتسوية لأنه أبقى قضية السيادة نصب عينيه. فطالما بقي المسلمون ذو سيادة، فيمكن أن يسود العدل.
في 14 تموز من عام 1920، عندما أصدرت فرنسا إنذارها بالاستسلام أو مواجهة الغزو- قاد رضا وفداً من المؤتمر إلى الملك فيصل. ورغم معرفة رضا أن الجيش السوري ضعيف بشكل ميؤوس منه، فقد حذّر من قبول عرض فرنسا. وقد أصرّ على أنه لا يجب مقايضة السيادة. وعندما اندلعت أعمال الشغب، أبقى رضا على المؤتمر في جلسته حتى أجبره فيصل أخيراً على إنهاء أعماله في 19 تموز(51).
وبعد أسبوع، هرب رضا من الدبابات الفرنسية إلى الصحراء الأردنية. وقد عنى ذلك بالنسبة له أن فرنسا سرقت سيادة العرب في ظل التواطؤ المريب للمجتمع الدولي.
كتيبة فرنسية داخل مدينة دمشق 1920م
أمّا بالنسبة للفرنسيين، فقد كان الغزو “عملاً بوليسياً” خالصاً. فسوريا لم تملك أبدا السيادة لأن المجتمع الدولي لم يعترف بها رسمياً قط(52). ولفترة من الوقت، تابع رضا أمله بأن تحصل سوريا على السيادة، لأن حرب الاستقلال التركي أبطلت معاهدة سيفر التي كانت الأساس القانوني لسان ريمو. وفي عام 1921، افتتح رضا وحزب الاتحاد السوري مكتباً في جنيف، المقر الرئيسي لعصبة الأمم. وكنهم لم يتمكنوا من الضغط على عصبة الأمم لإبطال الانتداب الفرنسي على سوريا، والذي أخذ أخيراً شكلاً قانونياً بعد توقيع معاهدة لوزان في أيلول من عام 1923.
الخُلاصة: إرث دستور 1920 في عهد الانتداب:
لقد أوهن الظهور الوجيز للمؤتمر العربي السوري صحة عدة سرديات تقليدية حول الحياة السياسية العربية في القرن العشرين. فبينما سعت العديد من الدراسات لتفسير العنف السياسي كرد فعل على الحكم الأجنبي والديكتاتورية، فإن اهتماماً قليلاً أُولِي للسياسات اللاعنفية. ولكن ما يشد الانتباه هو أن رضا ونسبةً كبيرة من زملائه، لم يلجؤوا إلى حمل السلاح كردٍ على اتفاقيات سان ريمو، بل اختاروا أن يكتبوا دستوراً. ولم يأملوا بمجرد تزويد الدولة السورية الجديدة بهيئة تشريعية مستقلّة، بل طمحوا أيضاً في اقناع عصبة الأمم بأن العرب كانوا قادرين على حكم ذاتي حديث. وعلى عكس افتراضات الدراسات أن الليبرالية بقيت ظاهرة نخبويّة، فقد وضّحت نقاشات المؤتمر أن الطبقة الدنيا من الشعبويين تبنّت أيضاً أشكالاً ليبرالية من الحكومة.
كما تستدعي هذه الفترة أيضاً ضرورة إعادة النظر في مكان رشيد رضا في تاريخ السياسة العربية أوائل القرن العشرين. فقد أظهره الباحثون البارزون في الإسلام السياسي كسلفي أصولي، مشيرين إلى ابتعاده عن حداثوية أستاذه، محمّد عبده ليتبنى الوهابية على الطريقة السعودية في عشرينيات القرن العشرين(53). وفيما عدا الاقتراح بأن تبنيه للنظام السعودي كان نتيجة طبيعية لنزعته المحافظية الشخصية طويلة المدى، فلا توجد العديد من التفسيرات الأخرى. أمّا تاريخ المؤتمر فيشير إلى تفسير سببي. إذ أن رضا، مثل الآخرين، استاء بمرارة من التلاعبات الفرنسية والبريطانية بالقانون الدولي الطارئ لحرمان العرب من حقهم في تقرير المصير. ورداً على الاحتلال الفرنسي لسوريا، كتب رضا: “لا أحد بعد الآن يصدّق وعود الأوربيين، ولا أحد يثق بهم، أو حتى يتصوّرهم مؤهلين لممارسة العدل والفضيلة”(54).
كسرت هزيمة دمشق إيمان رضا والآخرين بالنماذج الكونية للعدالة، كما أنها مهّدت الطريق للشقاق بين الإسلامويّة والليبرالية وهو ما يميّز سياسة العرب حتى يومنا هذا. يجب أن يُقرأ التدمير المتعمّد للديمقراطية الإسلامية وفقدان السيادة الإسلامية بوصفهما العامل الحاسم في ابتعاد رضا عن القيم الليبرالية وسيره في اتجاه النموذج الوهابي في عشرينيات القرن العشرين، إذ أنه رأى بشكل متزايد أن استعادة الشريعة الإسلامية هو حجر الأساس لنيل السيادة. وقد عارض الوهابيون دائماً الهرمية العثمانية لصالح عقيدة أكثر شعبية من خلال قراءة المسلمين العاديين للقرآن. وقد ناسب هذا المنحى اعتقاد رضا الشخصي بالسيادة الشعبية بوصفها سلطة رقابية على سلطة الحاكم (ملكٌ مسلمٌ سابقاً، أما الآن مسيحيون أجانب والنخب العلمانية التي تعاونت معهم). باختصار، يشير سلوك رضا في مؤتمر عام 1920 إلى أن جاذبية الوهابية لم تكن مجرد -أو حتى- روحها المحافظة، بل كونها النموذج الأكثر ديمقراطية للسلطة الدينية.
لكن القطع المرير استلزم تحوّلات جانبية أخرى. إذ تبنّى رضا والإصلاحيون الآخرون رؤية أكثر صلابة عن حكومة إسلامية. وفي منتصف عشرينيات القرن العشرين، شنّ رضا حملة عنيفة ضد ليبرالي إسلامي جادل بأن الشريعة الإسلامية تفتقر إلى مجموعة جوهرية من القوانين فيما يتعلق بالحكومة لأن الله لم يفرض أن تكون الحكومة دينية. أُجبِر الكاتب على الاستقالة من قبل الأزهر، ومُنِع كتابه. كذلك رفض رضا الليبرالية بشدة باعتبارها عدوى خارجية، وباعتبارها حصان طروادة للإمبريالية الأوروبية. وقد وجدت مرارته متنفساً في تنظيم مقاومة للحكم البريطاني في مصر(55). والأهم من ذلك، أن رضا ألهم حسن البنا، الذي أسس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928. فقد بنى حسن البنّا مجتمعاً ناشطاً مكرّساً لإحياء الهابيتوس*** المميّز للمسلمين المحدّد في المعارضة لليبرالية الغربية.
وفي سوريا، تعمّق الانشقاق في مسار العلاقة بين الإسلامويّة والليبرالية. في عام 1928، أصبح هاشم الأتاسي رئيساً مرة أخرى لجمعية منتخبة لصياغة دستور لسوريا المنتدَبة، حسب ما طلبت عصبة الأمم والذي لم يكن مجرد نسخة عن دستور عام 1920. ففي هذه المرة تغلب الوطنيون العلمانيون على الملكيين والإسلامويين في سبيل إقامة جمهورية. إذ أخذوا بعين الاعتبار المشاعر الشعبية، وذكروا أن من متطلبات رأس الدولة (الرئيس الآن) أن يكون مسلماً. إلا أن القاعدة الشعبية للدستور قد قُوضت عندما حلّ المندوبُ السامي الجمعيةَ لعدم تخصيص السلطة العليا لفرنسا في الحكومة. وبعد سنتين، نشرت فرنسا بشكل انفرادي دستوراً معدّلاً لن يحمل سلطة سلفه(56).
وقد انتشرت خلال الانتداب الفرنسي مجموعات إسلامية معارضة للنخب الوطنية العلمانية. ومع حلول الوقت الذي كتب فيه السوريون دستورهم لما بعد الاستقلال، كان الإسلاميون قد حققوا نفوذاً كافياً ليدرجوا المادة 3، التي تقول: “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”. بالإضافة إلى ذلك، نصّت مقدمة الدستور على “إرادة الله” وأوردت أهدافاً “مقدسة”، مشيرة إلى أنه “لما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام، فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا”. أوهنت هذه اللغة المساواة القانونية مع غير المسلمين. وعندما احتجّ المسيحيون، منعت الحكومة المناقشة العامة للمادة 3(57). كان دستور سوريا لعام 1950 الأوّل في العالم العربي في اتخاذ الشريعة الإسلامية أساساً لكل التشريعات. وعلى مدى نصف القرن التالي، حذت 24 حكومة عربية حذو سوريا(58). فقد سببت الشريعة الإسلامية الشقاق بين إسلام الشعبويين وليبرالية النخب، وبين الأغلبية المسلمة والأقليات غير المسلمة.
وفي ضوء المزيد من الأبحاث يتضح أن للاستقطاب العنيف في السياسة العربية المعاصرة جذوره في ترسيخ الانتدابات بعد الحرب العالمية الأولى، والإقصاء العنيف للعرب من التمتع بحقوق مدنية ووطنية كاملة. فكانت هزيمة دمشق، بالنظر لما مضى، خطوة حاسمة باتجاه صعود الإسلاموية المعاصرة. وفي أعقاب الاحتلال الأوروبي، انتقل مركز الثقل من الحداثوية الإسلاميّة لمحمد عبده إلى نماذج أكثر صلابة لحكومة إسلاميّة ترتكز على رفض الليبرالية الغربية. وبناء على ذلك يمكن مقارنة تأثير سان ريمو في الشرق الأوسط بتأثير معاهدة فرساي في ألمانيا. ففي العالمين، كان يُنظر إلى كلا المعاهدتين باعتبارهما صارمتين وغير عادلتين. في كل من دمشق وبرلين، فقد قوّضت المعاهدات البزوغ الهش لليبرالية فيما بعد الحرب.
*المادة 2 من الدستور المصري: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
**تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية تحت عنوان: “الفكر العربي في عصر النهضة”، ولكن في حوار مع ألبرت حوراني أجراه مصطفى زين، منشور في مجلة المجلة، عبّر حوراني عن عدم موافقته على عنوان كتابه باللغة العربية، إذ قال: “أوّد أن أسجل اعتراضي على عنوان كتابي كما ورد في العربية. ففي الأصل أي في الانكليزية، عنوانه، (The Arabic Thought In The Liberal Age) والتعبير العربي “النهضة” يعطي انطباعاً مختلفاً لم أقصده، وكأن المسألة مع “النهضة” تبدو جديدة كلياً، ودون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة “نهضة” أن تعبر عنه. ……”، ثم عاد ليؤكّد اعتراضه عندما قال: “مرة أخرى لا أوافق على عنوان كتابي بالعربية، وهذا خطأ من المترجم. أما ما قصدته تحديداً بالعنوان الانكليزي فهو “الفكر العربي في العصر الليبرالي” في أوروبا”. ويمكن الاطلّاع على النص الكامل للحوار على الرابط التالي: حوار مع البروفيسور ألبرت حوراني، مجلة المجلة.
*** هابيتوس (Habitus): شكل هذا المفهوم جوهر النظرية التي اعتمدها بورديو في قراءة المجتمع وفهم معطياته وفعالياته. ويُعرّف الهابيتوس بأنه نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه…
Notes
1 “Al-Rihla al-Suriya al-Thaniya (10): Hukumat Dimashq al-’Arabiya,” al-Manar 23:4 (27 April 1922): 314.
2 Ibid., 313–14.
3 Text of the constitution has been reprinted in multiple primary document collections and secondary sources. The most authoritative is in Hasan al-Hakim, al-Watha’iq al-tarikhiyah al-muta’alliqha bial-qadiyah al-suriya (Beirut: Dar Sadr, 1974), 194–213. See also Mazin Yusuf Sabbagh, Sijill al-dustur al-suri (Damascus: Dar al-Sharq, 2010), 81–105; Mari Almadh Shahrastan, al-Mu’tamar al-suri al-’aam 1919–1920 (Beirut: Dar al-Amraj, 2000), appendix; Muhammad Mufaku Arna’ut, Dirasat hawla al-hukumah/al-dawlah al-’Arabiyah fi Dimashq 1918–1920 (Amman: Dar al-Shuruq, 2000), appendix.
A commonly used English-language source on the constitution mistakenly reports that the designated the government’s official religion as Islam: Dustur: A Survey of the Constitutions of the Arab Muslim States (Leiden: E. J. Brill, 1966), 66. Majid Khadduri, author of that chapter and an entry in the Encyclopedia of Islam, made the same error in his seminal article, “Constitutional Development in Syria,” The Middle East Journal 5:2 (Spring 1951): 139. The source of his error is a book by French scholar, Philippe David, Un gouvernement arabe à Damas (Paris: Marcel Giard, 1923) that incorrectly translated Article 1 to read “a state. . . . whose official religion is Islam.” The correct translation of Article 1, as reproduced in Arabic sources, is: “The government of the Syrian Arab Kingdom is a civil, parliamentary monarchy. Its capital is Damascus and the religion of its king is Islam.” (Hakim, al-Watha’iq al-tarikhiyah, 194)
4 Hubert Young, The Independent Arab (London: John Murray, 1933), 305.
5 For example, no mention is made of Rida’s role in the 1920 Syrian constitution in the Muslim Brothers’ Wikipedia entry on Rida: Link (Accessed 26 July 2014).
6 Elizabeth F. Thompson, Justice Interrupted: The Struggle for Constitutional Government in the Middle East (Cambridge: Harvard University Press, 2013), 150–176.
7 Nathan J. Brown, a leading public commentator on the Egyptian revolution, mistakenly called the 1920 Syrian constitution a mere replica of the Ottomans’ 1909 constitution in his Constitutions in a Non-Constitutional World (Albany: State University of New York Press, 2001), 68.
8 Samer S. Shehata, “In Egypt: Democrats vs. Liberals” New York Times 7 July 2013.
9 Thompson, Justice Interrupted.
10 Eric D. Weitz, “From the Vienna to the Paris System: International Politics and the Entangled Histories of Human Rights, Forced Deportations, and Civilizing Missions,” American Historical Review 113:5 (2008): 1313–1343.
11 Christoph Schumann, “Introduction,” in Liberal Thought in the Eastern Mediterranean, ed. ibid. (Leiden: Brill, 2008), 3.
12 Charles Kurzman, ed., Modernist Islam 1840–1940: A Sourcebook (New York: Oxford University Press, 2002), 3–5, 20–22.
13 Leonard Binder, Islamic Liberalism, (Chicago: The University of Chicago Press, 1988), 4.
14 Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age, 1798–1939 (New York: Cambridge University Press, 1983), 227.
15 Umar Ryad, Islamic Reform and Christianity (Leiden: Brill, 2009); Eliezer Tauber, “Rashid Rida and Faysal’s Kingdom in Syria,” The Muslim World 85:3–4 (1995): 235–245; Eliezer Tauber, “Rashid Rida’s Political Attitudes during World War I,” The Muslim World 85:1–2 (1995): 107–21; Mahmoud Haddad, “Arab Religious Nationalism in the Colonial Era: Re-reading Rashid Rida’s Ideas on the Caliphate,” Journal of the American Oriental Society 117:2 (1997): 253–277
16 Dyala Hamzah, “Intérêt général (maslaha âmma) ou le triomphe de l’opinion: Fondation délibératoire (et esquisses délibératives dans les écrits du publiciste syro-égyptien Muhammad Rashîd Rîdâ 1865–1935)” (PhD thesis, EHESS, Paris and Freie Universität, Berlin, 2008), 140–143, 181–193, 304–309. I thank Dr Hamzah for sharing a copy of the thesis with me.
17 Dyala Hamzah, “From ‘Ilm to Sahafa or politics of public interest (maslaha): Muhammad Rashid Rida and his Journal al-Manar (1898–1935),” in The Making of the Arab Intellectual, ed. ibid. (New York: Routledge, 2013), 100. (Chapter is pp. 90–127.)
18 Ahmad Dallal, “Appropriating the Past: Twentieth-Century Reconstruction of Pre-Modern Islamic Thought,” Islamic Law and Society 7:1 (2000): 342. (Full article is pp. 325–358.)
19 In his chapter on Rida, Hourani mentions only in passing that Rida was president of the Syrian Congress; Schumann, Liberal Thought in the Eastern Mediterranean, contains a chapter Rida and the 1908 Ottoman constitution, the demise of Ottoman liberals in 1918–1923, and the Syrian constitution of 1928, but nothing on the 1920 Congress.
20 Yusuf al-Hakim, Suriya wa al-’Ahd al-Faysali (Beirut: Dar al-Nahar, 1966); Abu Khaldun Sati’ al-Husri, Yawm Maysalun: Safha min Tarikh al-’Arab al-Hadith. Mudhakkirat, rev. ed. (Beirut: Dar al-Ittihad, 1965) orig. pub. 1945; George Antonius, The Arab Awakening (London: Hamilton, 1938); Zeine N. Zeine, The Struggle for Arab Independence: Western Diplomacy and the Rise and Fall of Faisal’s Kingdom in Syria (Beirut: Khayat’s, 1960). I depend too on the survey of al-Manar’s coverage of the Faysal era in Ahmad Salah al-Malaa, Juthur al-Usuliya al-Islamiya fi Misr al-Mu’asira: Rashid Rida wa Majallat al-Manar, 1898–1935 (Cairo: Dar al-Kutub wa Watha’iq al-Qawmi, 2008) 188–195.
21 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 33–41; Antonius, Arab Awakening, 292. See also Khayriyya Qasimiyya, al-Hukuma al-’Arabiyya fi Dimashq, 1918–1920 (Cairo: Dar al-Ma‘arif, 1971).
22 Arna’ut, Dirasat, 68.
23 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 60–68; Eliezer Tauber, The Formation of Modern Syria and Iraq (London: Frank Cass, 1995), 16–19.
24 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 73–83.
25 Tauber, Formation of Modern Syria, 21–27.
26 Tauber, “Rashid Rida’s Political Attitudes during World War I,” 119.
27 Arna’ut, Dirasat, 69, quoting Darwaza’s memoir, Mudhakkirat Muhammad ‘Izzat Darwaza, vol 1, 285, 391,462; Tauber, Formation of Modern Syria, 46, 52; Rida, al-Manar, 27 May 1922, 392–393.
28 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 95. See also al-Manar 21:8 (June 1920): 438.
29 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 103.
30 Tauber, The Formation of Modern Syria, 29–30.
31 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 122–126.
32 Tauber, Formation of Modern Syria, 46, quoting al-Manar, 27 May 1922, 392–393; Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 107–108.
33 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 116–120.
34 See Thompson, Justice Interrupted.
35 Shahrastan argues that the full draft of the constitution was read to the Congress on 5 July, see her al-Mu’tamar al-Suri, 181. The other members of the constitutional committee, which had begun meeting in the summer of 1919, were: Hashim al-Atasi (prime minister in July 1920 and future president of the Syrian republic), Saadallah Jabiri (future prime minister of the Syrian republic), Shaykh Abd al-Qadir al-Kaylani (a former mayor and Ottoman deputy from Hama), Safi al-Atasi, Ibrahim al-Qasim ‘Abd al-Hadi, Sa’id Haydar (a lawyer and diplomat who would help write Syria’s 1950 constitution), Shaykh‘Abd al-’Athim al-Tarabulsi, Teodor Antaki, and ‘Izzat Darwaza (Congress secretary and future Palestinian nationalist).
36 Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 181–189.
37 ‘Uthman Sultan, in the name of the committee, “Mazbata al-asbab al-ujiba li-wad’ la’hat al-qanun al-asasi – al-dustur,” reprinted in Shahrastan, al-Mu’tamar al-’Amm, 229–244 and in Arna’ut, Dirasat, 119–132 from the original in Hasan al-Hakim, al-Watha’iq al-Tarikhiya al-Muta’al-muta’alliqa bil-qadiya al-Suriya fi ‘ahdayn al-’arabi al-Faysali wal-intidabi al-faransi, 1915–1946 (Beirut: Dar Sadr, 1974) 214–228.
38 Nathan J. Brown, “Reason, Interest, Rationality and Passion in Constitution Drafting,” Perspectives on Politics 6:4 (December 2008): 675–689.
39 James Gelvin, Divided Loyalties: Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire (Berkeley: University of California Press), 188–195.
40 Said Amir Arjomand, “Islamic Constitutionalism,” Annual Review of Law and Social Science 3 (2007): 115–140.
41 Tauber, “Rashid Rida’s Attitudes during World War I,” 117.
42 Arna’ut, Dirasat, 40–50; Gelvin, Divided Loyalties, 107–117, 154–159.
43 Hakim, Watha’iq al-tarikhiya, 48–58.
44 Reprinted in Abu Khaldun Sati’ al-Husri, Yawm Maysalun, new ed. (Beirut: Dar al-Ittihad, 1965), 210, 215–216, 228, 273.
45 Rashid Rida, “’Ibra bil-sirat al-Malik Faysal (6),” al-Manar 34:1 (May 1934): 21. Link (Accessed August 2013).
46 Rashid Rida, “al-’Ibara bi-sirat al-Malik Faysal (9),” al-Manar 34:5 (October 1934): 20. Link (Accessed August 2013).
47 “al-Mar’a fi al-mu’tamar al-suri – munaqashat khatira yusajilha al-tarikh,” al-Difaa’ 89 (Tuesday,27 April/Nisan 1920), reprinted in Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 194–207.
48 “Al-mar’a fi al-mu’tamar al-suri – munaqashat khatira yusajilha al-tarikh,” al-Difaa’, 27 (April/Nisan 1920), reprinted in Shahrastan, al-Mu’tamar al-Suri, 194–207. Quotes taken from pp. 204–206.
49 Rashid Rida, “al-’Ibra bi-sirat al-malik Faysal,” al-Manar 34:5 (October 1934): 20. Link (Accessed in August 2013).
50 Tauber, Formation of Syria and Iraq, 152.
51 Tauber, Formation of Syria and Iraq, 47.
52 David, Un gouvernement arabe à Damas, 130–132.
53 Roxanne L. Euben and Muhammad Qasim Zaman, Princeton Readings in Islamist Thought (Princeton: Princeton University, 2009), 7–11, 19–20.
54 Emad Eldin Shahin, “Muhammad Rashid Rida’s Perspectives on the West as Reflected in al-Manar,” The Muslim World 79:2 (1989): 129, quoting al-Manar 22 (1920): 142.
55 Shahin, “Muhammad Rashid Rida’s Perspectives,” 130–131.
56 Philip S. Khoury, Syria and the French Mandate (Princeton: Princeton University Press, 1987), 331–345.
57 Joshua Teitelbaum, “The Muslim Brotherhood and ‘the Struggle for Syria,’ 1947-1958. Between Accommodation and Ideology,” Middle Eastern Studies 40:3 (2004): 144; Khadduri, “Constitutional Development,” 152–157; Thompson, Justice Interrupted, 217–226; Akram al-Hourani, Mudhakkirat vol. 2 (Cairo: Madbuli, 2000), 1077–1086, 1210–1224, 1231–1239. Text of 1950 Constitution is found in Ma’had al-Dirasat al-’Arabiya al-’Aliya, Dasatir al-Bilad al-’Arabiyya (Cairo: Jami‘at al-Duwal al-‘Arabiyya, 1955) 142–177.
58 Arjomand, “Islamic Constitutionalism,” 115–140, quote on 123.
*تُنشر هذه الترجمة بعد أخذ موافقة الكاتبة، وكانت الدراسة الأصلية قد نشرت باللغة الانكليزية تحت عنوان: “RASHID RIDA AND THE 1920 SYRIAN-ARAB CONSTITUTION: How the “French Mandate undermined Islamic liberalism