مقالات
د. عادل عبد السلام (لاش) – حسن يلبرد
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
حسن يلبرد من أوائل أعلام الشركس المتنورين في الوطن الأم ، الذين نذروا أنفسهم لوضع أسس الأداب واللغة الشركسية وكتب القراءة وتعليم الصغار والكبار من عامة الشعب الكتابة والقراءة بالشركسية. وهو صاحب مقولة :
” من لا يبجل لغته، لن يبجل روحه، اللغة والروح واحد”.
«Зи бзэр зымыгъэлъап1эм и псэр игъэл1эп1энукъым, бзэмрэ псэмрэ зэтохуэ»
ولد حسن يلبرد (وتكتب -يلبد- أحياناً) في ثمانينات القرن التاسع عشر في قرية تشِشبَتش Чыщбэч في منطقة القبرتاي، وبعد أن أكمل تحصيله عمل في جمع التراث ,الفولكلور الشركسي وتطويره في زمن ظهور النخبة المشهورة من أدباء شركس أواخر القرن المذكور والنصف الأول من القرن العشرين، أمثال تساغوَ نوري، وتسي إبراهيم، وشَرتلئِقوً تالوستَن، وتالبه ميخائيل، وكئراشة تيمبوت وغيرهم ممن كان لهم فضل إصدار مؤلفات عن الفولكلور والملاحم النارتية والمرويات، كما أصدر هؤلاء أول سفرضخم (635 ص.) عن المرويات الشركسية مترجمة إلى اللغة الروسية طبع في موسكو قبل 85 سنة. وتزامنت بدايات عمل حسن والآخرين مع مرور بلاد الشركس بتطورات سياسية واجتماعية خطيرة أبرزها الحرب الأهلية بين الشيوعيين الحمر و قوات دينيكين من الروس البيض، و قيام جمهورية شمال القفقاس والقضاء عليها من قبل الجيش الأحمر سنة 1921. وعمل حسن بعد ذلك وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية في التعليم و على إصدار العديد من كتب المرويات الشركسية، والأغاني والأمثال الشعبية مثله في ذلك مثل الأدباء والكتا ب أمثال شورتن أسكربي (أدركته بالمراسلة) وحدَ غاتلئه أسكر، وشوجن تسئكئو آدم، وقردن غوشئـ زراموك.وذلك إضافة إلى كتب القراءة.
ومع كل اشكال النشاطات المتنوعة التي مارسها، كان اهتمام حسن الأول منصباُ على وضع الألفباء المناسبة لكتب القراءة لمختلف صفوف المدارس الشركسية، وأفتخر أنه أهداني نسخة من أول كتاب قراءءة (БУВАР) ألفه. إذ أسهم يلبرد حسن في أعمال وضع الأبجدية الشركسية ولجانها في مراحلها المخنلفة، وهو وإن كان تعلم ودرس في البدايات بالأبجدية العربية (كان يكاتبني أحيانا بالعربية و بأبجديها)، فإنه ومع بدايات الاتجاه نحو تبني الشركس الأبجدية اللاتينية ، كان من أنصارها ومتحمساً لها، وعمل هو وخوران باتيي وآخرون مع العالم الروسي ياكوفليف الذي استدعي إلى نالشيك للمساعدة في وضع أبجدية موحدة لكافة الشركس. ليس هذا فقط بل كان حسن يصبو للوصول إلى أبجدية تصلح للغتين الشركسية والأبازية معاً. فكانت الحصيلة إقرار أبجدية عام 1923 اللاتينة التي صدرت بها صحيفة (قباردا الحمراء)، وتم تعديلها عام 1924 ثم عام 1930. كما صدر بها العدد الأول من صحيفة (قره حلق) باللغتين الشركسية والروسية بمعدل 2000 نسخة. واعتباراً من عام 1939-1940 أنصرف حسن يلبرد إلى تأليف كتاب قواعد اللغة الشركسية والكتب المدرسية التي أصبحت شغله الشاغل، فقدم لقومه وأبنائه أجل الخدمات في الحقل التعليمي – التربوي. وكان أكثر ما يؤلمه أخبار منع السلطات التركية الشركس في تركيا وأولادهم من التكلم باللغة الشركسية حتى في منازلهم. فلا يفتأ يروي الحاثة التالية بين الجدة الشركسية وأحفادها في تركيا، إذ تسأل الجدة عن اللغة التي يتكلمونها فيجيب الصبية ” نتكلم التركية يا نينه، أنهم لايقبلون أن نتكلم باللغة الشركسية..” فتقول الجدة ” وربي من يأخذ لغتك، ليأخذن روحك..”…. والأن مسموح لك التكلم باللغة الشركسية…. ولكنك لن تجد من يتكلمها ؟؟؟!!! “. ويردد أن تلاميذ المدارس الشركس كانوا بعانون من الاعتداء عليهم وضربهم في المدرسة إذا تنصت عليهم أحد من الأتراك وسمعهم يتلكلمون الشركسية في البيت.
كان هذا العَلَم المناضل في سبيل خدمة لغة قومه وأدبهم ومروياتهم وثقافتهم هو أول شركسي من الوطن الأم يراسلني، ويكتب لي أول رسالة تصل سورية مخترقة الستار الحديدي في العهد الشيوعي، على الرغم من المخاطر التي كانت تهدد من يرتكب مثل هذا العمل (المجرم)، والذي يمكن أن يودي بصاحبه إلى السجن في سيبيريا إن لم يعدم. والقصة هي كما عشتها:
نشرت في 26 آب/ اغسطس من عام 2015 على شبكة التواصل الاجتماعي مقالاً بعنوان ( أول رسالة شركسية تغادر دمشق إلى الوطن الأم)، اقتطف منها ما يأتي:
اشتركت سورية في سنة 1957 بمهرجان الشباب العالمي السادس الذي نظمته الفيدرالية العالمية للشبيبة الديمقراطية، والاتحاد العالمي للطلاب باشتراك 34.000 فرد من 130 دولة والذي افتتح في 28 تموز عام 1957 في موسكو، بوفد كبير من الشباب والشابات. وحمل السوريون العائدون معهم الكثير من الأخبار، ومن بينهم المرحومة السيدة الفاضلة منيرة توغوظ، التي أعطتني بطاقة تعارف (كرت فيزيت) لشخص شركسي لاتعرفه اجتمعت به في مهرجان موسكو. وكانت البطاقة، التي مازلت أحتفظ بها في أرشيفي، تحمل اسماً وعنواناً في مدينة نالشيك عاصمة جمهورية القبرتاي-البلقر، مزبورة باللغة الروسية. فما كان مني إلا اهتبال هذه الفرصة الذهبية التي جاد بها الزمان علي، بالكتابة إلى صاحب البطاقة، لعله يرسل لي بعض الكتب الشركسية أو المطبوعات الأخرى. لكنني واجهت عقبتين في هذا السبيل، تمثلت الأولى بمخاطر التواصل مع مواطن شركسي سوفييتي، والثانية إمكانية اتهامي بالشيوعية وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. وأنا في ذلك الوقت مدير لمدرسة ثانوية القلمون الرسمية في مدينة النبك، على الرغم من بعدي الشاسع عن السياسة والإيديولوجيات من جهة، وكذلك إمكانية تعريض صاحب البطاقة لمخاطر أكبر من قبل أجهزة الأمن السوفييتية، سيما وأنني لاأعرف من هو، ولا أعرف طبيعة عمله و مركزه من جهة ثانية. إذ كان اسم الأسرة التي ينتمي إليها ذلك الشخص لم أسمع بها في سورية أو الأردن فهو من أســـــــــرة ( خمبَزَر)، حتى أنني تساءلت: هل هي أسرة شركسية أم لا. لأن الاسم كان مكتوباً بالروسية التي تشوه كتابة الأسماء الشركسية ونطقها، اي أن الاسم كان ينتهي بـ (أوف) السلافية (خمبزروف)، وذلك في إطار الإبادة الروسية للحضارة والقومية والثقافية للشركس وطمس هويتهم كأمة. وبعد تفكير طويل وتردد مؤرق قررت المغامرة والمخاطرة لإشباع تعطشي للمعرفة والتعرف بشراكسة الوطن الأم بالكتابة له. ولمد جسر صلة بين شراكسة سورية وشراكسة الوطن الأم. وهنا برزت العقبة الثانية المتمثلة باللغة. إذ كنت أكتب الشركسية بالرسم اللاتيني الذي أقرته الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق ونادي الجيل الجديد في عمان، ولا أعرف الروسية بقدر يسمح لي الكتابة بها، كما كنت لا أعرف الكتابة الشركسية بالأحرف الروسية، و قليل الإلمام باللهجة الشرقية.
ومع ذلك كله اتخذت قراري بالكتابة، فعكفت على تعلم الكتابة بالأبجدية الشركسية المذكورة، التي وجدتها في مجلة معادية للإتحاد السوفييتي هي (Caucasian Review) التي كانت تصدر في ميونيخ في ألمانيا وصدر منها 10 أعداد فقط (احتفظ بها في مكتبتي). وخططت رسالة استغرقت كتابتها مني أسبوعين، صغتها بأسلوب يبعد الأذى عني وعن المرسلة إليه، وأرسلتها في شهر أيلول من العام نفسه (1957) مسجلة مع بطاقة تسليم واستلام. ومضت أيام، بل وأسابيع من دون أي جواب على رسالتي على الرغم من عودة إشعار استلامها من قبل المرسلة إليه.
لكنني وبعد قرابة عشرة أسابيع، وفي شهر كانون الأول من عام 1957 تلقيت إشعاراً من البريدالمركزي في دمشق بوصول مادة مسجلة باسمي علي الذهاب إليه لاستلامها. وكانت مفاجأة لا أنساها ما حييت، إذ تبين أن المادة طرد ضخم مرسل إلي من مدينة نالتشيك، مملوء بعشرات الكتب والمجلات وغيرها من مطبوعات جميعها باللغة الشركسية. وأذكر أن سعادة المرحومة والدتي بوصول الطرد أو أي خبر من الوطن الأم كانت كبيرة لما لمسته من قلقي وانزعاجي لتأخر الإجابة على رسالتي.
وصل الطرد من دون أية رسالة. والأغرب من ذلك أنه كان مرسلاً من معهد للبحوث في مدينة نالتشيك ولايحمل اسم أي شخص، ولا حتى اسم الشخص الذي راسلته. لكن جميع الكتب وغيرها في الطرد كانت مهداة لي من قبل مؤلفيها وممهورة بتواقيعهم.
لكنني وفي أواخر الشهر المذكور وصلتني أول رسالة من من نالشيك من شخص لا أعرفه، وكان المرسل هو رجلنا الكبير حسن يلبرد. وأذكر أنه رجاني أن أرسل له كتاب (تاريخ القوقاز) لـ: مت عزت باشا باللغة العربية التي كتب بعض جمل رسالته بها. ومن هنا كانت بداية علاقتي الطويلة مع العلامة حسن ومع الوطن الأم ومثقفيه وأدبائه وغيرهم من رجالات الأدب والعلم والمعرفة، الذين كانت أعدادهم تزداد يوما بعد يوم، لتناقل اسمي وعنواني في بقاع الوطن شرقيه وغربيه.
توفي حسن يلبرد في ستينات القرن الماضي دون أن أحظى بلقائة في زيارتي المتأخرة إلى نالشيك، رحمه الله لقد أسس للغة قومه وترك إرثاً ثقافياً وأعمالاً تخلده.
عادل عبدالسلام (لاش) دمشق 21 – 2 – 2017.
أشكر الأخ هاني الحاج بارة ألذي احتفظ لي بهذه الصورة التي فقدتها
لحسن يلبرد في أرشيفه