مقالات
د. عادل عبد السلام (لاش): الضائقة المالية وقرار طردي من معهد غوتة
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
الضائقة المالية وقرار طردي من معهد غوتة:
(صفحة من مذكراتي مع بعض التعديل الطفيف)
نجحت سنة 1960 في مسابقة الحصول على منحة مقدمة من جامعة برلين الحرة في الجزء الغربي من المدينة لنيل الماجستير في الخرائط ثم الدكتوراة في الجغرافيا. سبقها حضور دورة مدتها ستة أشهر لتعلم اللغة الألمانية في معهد غوتة في مدينة إيزرلون في مقاطعة زاورلاند من ولاية نورد – راين فيستفاليا في ألمانيا الغربية (الاتحادية).
كانت نفقات تعلمي اللغة على حساب دولتي، ولا تدخل في مخصصات منحة جامعة برلين الحرة. وكان الاتفاق مع المعهد أن تُحول رسوم تعلم اللغة والإقامة وغيرها البالغة 1800 مارك غربي إلى معهد غوتة. إضافة إلى إرسال رواتبي الشهرية إلي. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، إذ مضى الشهر الأول والثاني، ولا حياة لمن تنادي. وكنت أواجه في أثنائها ضغط مدير المعهد (فاكفيتس) وهو يهودي بولوني الأصل، ومطالبته اليومية لي بنفقات دراسة اللغة والسكن والإقامة والتنقل والطعام، والتي كان المفروض لها أن تدُفع للمعهد في مطلع الدورة. كما كنت أواجه تقلص ما كانت احمله من نقود قليلة لمصروفي الخاص. حتى أنني تحولت من تدخين السجائر المفلترة (بيتر شتويفزانت)، إلى تدخين سجائر اللف الأرخص، وجاراني في ذلك طلبة من اليونان وتركيا، مما أزعج معلمِي الدورة، لأننا كنا نلفها أثناء الحصص. كما اضطررت إلى بسط بنطالي وغيره تحت فراشي لتوفير أجرة الكي.
وخوفاً من مواجهة الأسوأ، ولوفاء الدين المترتب على بلدي، قررت العمل لكسب المال. وهنا واجهتني مشكلة قانونية، هي أنني كنت ممنوعاً عن العمل بحسب الاتفاق الموقع مع المعهد و بحسب تأشيرة الإقامة على جواز سفري. وهنا أشار علي بعض طلاب المعهد العرب الذين كانوا يعملون بالخفاء، مخالفة كافة الشروط والاتفاقيات، والعمل سراً، بدءاً من عدم تقديمي جواز السفر عند طلب العمل. فذهبت إلى “مكتب العمل” في المدينة، وكانت لغتي الألمانية في مرحلتها البدائية. وأخبرت الموظف الذي استقبلني، بلغة ركيكة أنني أريد عملاً . فسألني ماذا أريد أن أعمل. فقلت له: أي عمل كان، ابتداءاً من عامل نظافة إلى عمل رئيس جمهورية، فأنا بحاجة ماسة للنقود. فتبسم من قولي ومن ركاكة ألمانيتي وسألني عما إذا كنت أحمل أي مؤهل علمي أو مهني. فأجبته بالإيجاب. وقدمت له ترجمة ألمانية مصدقة لشهاداتي الجامعية السورية، حملتها معي بناءاً على نصيحة من أشارعلي بكيفية طلب العمل. وبعد قراءته لها ارتسمت على وجهه علائم التعجب وهز برأسه وتركني ودخل غرفة مجاورة، ليعود ويطلب مني مقابلة مدير المكتب، الذي استقبلني بحفاوة غريبة علي. وسألني عن تاريخ ميلادي. ثم عاد إلى الشهادات وقال مستغرباً : إن هذا غير معقول !!! لأنك تحمل خمسة دبلومات وعمرك لايتجاوز 27 سنة. قلت وأين الخطا ؟ فأجاب أن الحصول على كل دبلوم يتطلب دراسة 3 سنوات، وهذا يعني أنك حصلت على دبلومك الأولى وعمرك بحدود 12 سنة. وبمراجعة الترجمة الألمانية معاً، اكتشفنا أن الترجمان المحلف في دمشق، وهو المرحوم رشاد الكزبري، ترجم كل سنة مذكورة في شهادة الإجازة في الجامعة لأربع سنوات مع أهلية التعليم الثانوي على أنها (دبلوم). وفي ختام المقابلة وسؤاله عن دراستي في ألمانيا ومستقبلي في بلدي، كتب ورقة إلى مسؤول في معمل بخصوص قبولي للعمل فيه، ونصحني بالذهاب إليه فوراً. وخرج موظف معي إلى موقف باص يمر أمام المكتب، وطلب من السائق أن يرشدني إلى المعمل. وهكذا كان.
غاردت الحافلة ونظرت إلى المعمل وما حوله فلم أتبينه جيداً للدخان والغبار الأسود الذي كان يملأ الجو، فلقد كان معمل صهر للحديد والنحاس في منطقة هاغن والرور للصناعات الثقيلة التي تعج بالأفران العالية. استقبلني رجل أنيق يرتدي معطفاً أبيض (مبذل) تبين لي فيما بعد أنه المهندس المسؤول في المعمل، أعطيته الورقة فرحب بي، ثم رافقته إلى صالة المعمل الضخمة. وطلب مني أثناء تجوالنا أن أختار العمل الذي أريد. فوقع اختاري على ألة نقل معلقة (ونش) متحركة تعمل بضغط الأزرار. ثم سألني متى أريد العمل، فأجبته: اليوم. فقال: لابد من بعض الإجراءات أولاً، وتعال غدأ. واتفقت مع رئيس عمال الصالة السيد (فيرنر) أن أعمل من الساعة السابعة مساءاً حتى الواحدة منتصف الليل. وبعد اسبوع من العمل استلمت أجري فوجدته ضئيلاً، ولما أخبرت المسؤول بذلك، نقلني للعمل أمام فرن الصهر، وكان أجر الساعة عند الفرن 11,5 ماركاً. فعملت أمامه مرتدياً لباساً ذا خوذة واقية أستحم في داخلهما بعرقي، كما عملت أيام العطل والأعياد، إذ كان الأجر فيها مضاعفاً. ولقد عرفت في أثناء ذلك أن أجر نظيري العامل الألماني أعلى من أجري مقابل العمل نفسه. وبسؤالي عن السبب أجابني رئيس العمال أن اليد العاملة الألمانية قليلة، لذا فإن ألمانيا توظف عمالاً أجانب غير شرعيين بأجور منخفضة مقابل تغاضي السلطات عن شرط عدم السماح لهم بالعمل في ألمانيا. وأكــــــد لي ذلك بسؤاله لي : ” هل طلب منك أحد جواز سفرك في مكتب العمل أو في المعمل ؟؟؟”. ولقد عوملت في المعمل معاملة طيبة، وكان العمال يساعدونني بكتابة وظائفي اليومية، وتعلم اللغة. وكانوا يخاطبونني بلقب (بروفسور أي: أستاذ جامعة)، وعلمت أن رئيس مهندسي المعمل أخبرهم أنني سأصبح أستاذ جامعة في بلدي بعد تعلم اللغة والدراسة في برلين، وذلك نقلاً عن رئيس مكتب العمل في إيزرلون… ولقد كانت معاناتي في فترة عملي كبيرة جداً، إذ كان علي أن أتناول وجبة العشاء الساعة السادسة في مطعم متعاقد مع المعهد، وبسرعة كي لاتفوتني الحافلة المارة أمام المعمل والوصول إليه قبيل السابعة. أما المعاناة الأكبر فكانت في رحلة العودة من العمل إلى المنزل بين الساعة الواحدة إلى الثانية بعد منتصف الليل البارد والمطير. كما كان علي، ولكي لا أخسر الوجبة الصباحية في المعهد، التواجد في الساعة السابعة والنصف فيه. وكثيراً ما غفوت في فترة الظهيرة في ركن من حديقة المعهد إن كان الطقس مناسباً، لبعد المعهد عن منزل إقامتي.
كان تأثير احتكاكي بالعمال واضحاً على تعلمي اللغة الألمانية الفصحى، إذ تسربت إليها كلمات عمالية وتعابير عامية بل وسوقية كثيرة، سببت لي مشكلة كادت أن تؤدي إلى طردي من المعهد. فلقد اكتشفت معلمة الصف (السيدة لوتز) استعمالي تلك الكلمات العامية في دروس المحادثة، خاصة في حصة الكلمات المترادفة، وكانت إحداها حول كلمة ” الفم” ومترادفاتها، إذ لم يعرف أحد من الطلاب مرادفة واحدة للفم، فتنطحت وذكرت متبجحاً أكثر من ثلاث مترادفات ( حنك، باجوق، بوز…)، فتوصلتْ المعلمة بعد استنطاقها لي في الاستراحة بين الساعات إلى أنني أعمل في مصهر (فرن عال) ليلاً. فنقلت ذلك بكل براءة وعلى سبيل النكتة والثناء علي، ورغبة منها في تحسين لغتي الفصحى، وجهلاً منها بمخالفتي شرط حظر العمل وتعهدي للمعهد بذلك والمختوم على جواز سفري، نقلته إلى المدير الذي استدعاني فوراً وأعاد علي قراءة تعهدي للمعهد (المكتوب بالألمانية والإنكليزية) بعدم العمل…. وعلى الرغم من معرفتي بمخالفتي حاولت تبرير أسباب عملي، وبالذات سعيي توفير مبلغ كافٍ لدفع نفقات ورسوم المعهد المتأخرة، أصر على طلبه مني مغادرة المعهد والمسكن. لكن المعلمة نفسها، التي أدركت أبعاد ما حصل، ندمت واعتذرت عن فعلتها، وتبنت الدفاع عني فعقدت مجلساً للهيئة التعليمية، التي طالبت المدير السماح لي بالاستمرار. ووافق على قرار المجلس. وبعد نجاحي في الدورة الأولى، وافقت إدارة المعهد ، على طلبي بحضور دروس الدورتين الثانية والثالثة معاً، نظراً لسرعة تعلمي اللغة الألمانية، ورغبة مني في الالتحاق بالفصل الشتوي للسنة الجامعية 1960-1961 في جامعة برلين الحرة.
بعدها تمكنت من توفير قرابة 3000 مارك غربي (كان المارك يعادل 95 قرشاً سورياً ؟؟؟) ، وأنهيت دورات تعلم اللغة في غضون أربعة أشهر، وسددت رسوم المعهد كاملة. ولم أتلق مخصصاتي ونفقات المعهد إلا بعد انتقالي إلى برلين….. ومن لطيف ما حصل لي كان إقامة العمال حفلة صغيرة لوداعي تركت في نفسي أثراً طيباً ، كما أقام المعهد للخريجين حفلة مناسبة. وبالمقابل تركت معاملة العاملين المصريين في الملحقية الثقافية لمجرد هويتي السورية، أسوأ ذكرى لاتنسى.
دمشق 21 حزيران -2017.