نشطت الحركة الصهيونية في جميع المجالات داخل دمشق، وليس فقط في القطاعات الاقتصادية والخدمية والصحية، بهدف كسب أكبر عدد ممكن من يهود الشام، من كل الأعمار والخلفيات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، شجعت على تأسيس صحف يهودية للوقوف في وجه المطبوعات الأربعين الصادرة في سورية أيام العهد الفيصلي، والتي كانت جميعها ناطقة باللغة العربية.
وتقدم عدد من الصحافيين اليهود بطلب تأسيس جريدة اسمها (الشرق) تصدر ثلاث مرات أسبوعياً باللغتين العربية والعبرية، فوافق على الطلب رضا الصلح، وزير الداخلية في حكومة رضا الركابي، وكان مقرها دمشق، ولها الحق في تعيين مراسلين في جميع المدن السورية وفتح مكاتب نظامية لهم.
وحُدد اشتراكها بخمسة وعشرين قرشاً في السنة الواحدة، وعين إبراهيم طوطح أحد وجهاء الطائفة، مديراً للتحرير، يعاونه الصحافي الشاب إلياس ساسون، المتخرج من مدارس “الأليانس” وجامعة بيروت اليسوعية. كان ساسون شاباً طموحاً لا يتجاوز عمره العشرين حينها، ذاع صيته في الأوساط الدمشقية خلال الحرب العالمية كأحد أبرز المتحمسين للثورة العربية ضد الحكم العثماني. كان مقرباً من وجهاء دمشق، وعلى معرفة شخصية بالأمير فيصل. وعند سؤاله عن ميوله السياسية كان يقول دوماً:” في الوطنية السورية نحن والمسلمون أخوة، وفي الدين نحن وإياهم أولاد عم”.
تعهد القائمون على جريدة “الشرق” بأن يهتموا فقط بالقضايا السورية العامة، والا يتطرقوا نهائياً إلى قضية فلسطين والهجرة اليهودية، ولا يقتربوا من الصهيونية إلا بما يتناسب مع الموقف الرسمي للحكومة العربية. ومع ذلك، وبالرغم من الغطاء الحكومي الممنوح للصحيفة، فإن الشكوك ساورت بعض الأهالي بشأن الهدف الحقيقي من وراء تأسيس جريدة سورية ناطقة باللغة العبرية، وفي هذا الوقت بالتحديد، وقوات الاحتلال الفرنسي تقضم الساحل السورية قطعة قطعة، وتستعد للزحف نحو العاصمة.
وقبل في المجال الخاصة إن جريدة ” الشرق” كانت ممولة من الحركة الصهيونية، وتهدف إلى تلميع صورة التنظيم العالمي، وبدأت بعض الأقلام السورية تتسائل عن الميول السياسية لمؤسسيها ولهيئة تحريرها. وفي آذار 1920م، وصلت إلى دمشق مطبعة حديثة من حيفا، بالأحرف العبرية، لطباعة النسخة العبرية من “الشرق”، فثار الناس أكثر، واتقلوا من النقد المبطن إلى الاحتجاج العلني، وكان المشروع يُجهض قبل أن يرى النور بسبب شدة المعارضة لهذه الجريدة، ليس فقط في الأوساط الثقافية، بل على مستوى الشارع السوري كله.
صدر بعد طول انتظار، العدد الأول من “الشرق” بأربع صفحات، اثنتان بالعربية واثنتان بالعبرية، وحملت مقالاً افتتاحياً في صفحتها الأولى، عن يهود الشام ودورهم الوطني، موقعاً من إلياس ساسون، فيه الكثير من المديح لراعي المشروع الأمير فيصل بن الحسين.
بعد أقل من أسبوع، وقبل صدرو العدد الثاني من الجريدة، دخل شرطي سوري مكاتب “الشرق” في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، ومعه شخص من نابلس، والصحافي الفلسطيني المعروف عارف عارف رئيس تحرير جريدة ” سورية الجنوبية” المعروفة بميولها القومية. اقتحم ثلاثتهم المكان على طريقة المداهمة البوليسية، مطالبين عامل المطبعة بإعطائهم العدد المقبل من “الشرق” لمراقبته قبل النشر، فظن أنهم موفودون من قبل الحكومة لوجود رجل أمن بينهم مسلح وبلباسه الرسمي، فأعطاهم العدد من دون أي تردد، فوصل في الصباح الباكر إلى يد يوسف العيسى، مؤسس جريدة “ألف باء” الدمشقية، الذي دخل البرلمان السوري غاضباً وملوحاً بمسودة العدد المقبل من “الشرق”، وصارخاً بأعلى صوت:”هل يعقل أن تصدر في دمشق، وهي قلب العروبة وعاصمتها، صحيفة عبرية لها أهداف مشبوعة؟ باسمي وباسم الزملاء نطالب الحكومة بإغلاقها فوراً، فإنها عار علينا كقوميين عرب وكمواطنين سوريين”.
طالبت أسرة “الشرق” أمير البلاد بتدخل سريع، ولكن فيصل كان مشغولاً بمفاوضاته مع الدول الكبرى، ولا يرغب في الدخول في أي مواجهة سياسية مع الشارع القومي في سورية، بعد إدراكه أن وعد بلفور قد بات حقيقة لا مفر منها، وكذلك اتفاقية “سايكس بيكو” التي أعطيت بموجبها سورية ولبنان لفرنسا، وأعطيت فلسطين والعراق لبريطانيا، لتقيما انتداباً على تلك الدور العربية وتطيحا استقلالها الذي وعدتا به خلال الثورة العربية.
رفض الأمير التدخل في قضية “الشرق”، فصدر العدد الثاني منها يوم 9 تموز 1920م، واختصرت الصفحات إلى ثلاث، اثنتان بالعربية وواحدة فقط بالعبرية، فيها مقال طويل يُذكر يهود دمشق بعلاقتهم بحكومة بلادهم وأميرها الشاب، ولا يتطرق إلى قضية المداهمة.
صدر العدد الثالث يوم 12 تموز، وسقطت منه جميع الصفحات العبرية تفادياً لأي صدام. ولم يصدر العدد الرابع بسبب وقوع معركة ميسلون الشهيرة، يوم الرابع والعشرين من تموز 1920م، بين الجيش الفيصلي والجيش الفرنسي، والتي سقط خلالها وزير الحربية السوري يوسف العظمة، وخلع الأمير فيصل عن العرض، واحتلت دمشق، وفرض الانتداب عليها وعلى جميع المدن السورية، تنفيذاً لاتفاقية “سايكس بيكو”[1].
[1] مبيض (سامي)، غرب كنيس دمشق، محاولات الحركة الصهيونية لاختراق المجتمع الدمشق 1914-1954، دار رياض الريس للطباعة والنشر، لندن 2017، الطبعة الأولى ، صـ 59-62